«أسرى آلتونا» محطّات تالفة من الوجود الإنساني
«أسرى آلتونا» محطّات تالفة من الوجود الإنساني
نسرين بلوط
من نقطة ميتافيزيقيّة ترسم لصورةٍ برجوازيّة انطوائية، ينطلق بول سارتر في مسرحيته: “أسرى آلتونا” ليفرض نظرية الوجودية الأيديولوجيّة على مفاصل المشاهد التي تُبنى على الصراع الملغّز بين الأبطال، في تنسّمٍ واضحٍ للجدلية التي تفرضُ موانئها في كتابات سارتر وتضع نصب وتيرتها ميدانَ الأدب الاجتماعي الأخلاقي، نابذاً مبادئ التحليل النفسي التقليدي الذي ترأسّه فرويد، متذرّعاً بالتحليل الوجودي للأرواح المتعثّرة من نير الحروب وتسلّط الأب وضياع أولاده في تباريح التجاذب السيكولوجي الحاد بين الإحساس بعقدة الذنب والتبجّح بخطاياهم.
تدور المسرحية في ألمانيا، حول أسرة ألمانيّة تتكوّن من الأب جيرلاخ الصناعي القوي الذي يحرص على توسيع رزقه وتحصين تجارته، والابن الأصغر ورنر الذي يعمل كمحامٍ متمرّس مع زوجته جوهانا، وابنته ليني التي تتصرّف بخلاعةٍ ظاهرة طوال الوقت، ومن الابن الأكبر فرانتز الذي شارك في حرب ألمانيا النازية كقائد لكتيبته، وتعرّض للخديعة والغدر، كما شنّ بنفسه حملاتٍ من التعذيب على السجناء اليهود.
ومنذ ثلاثة عشر عاماً سجن فرانتز نفسه في غرفةٍ منعزلة في الطابق العلوي لا يرى أحداً سوى شقيقته ليني التي تعرض له خدماتها اللوجستيّة وتخوض معه علاقة محرّمة تتأجّج برغبةٍ دفينةٍ في تعذيب ضميره، ويغرق في تهيّؤاتٍ متشنّجة توحي له بأنّ سراطينه تزحف نحوه وتطوّقه لتقضي عليه، وتنهمر عليه خيالاتٌ لأشخاصٍ عايشهم في فترة الحرب، ليهذي بروحٍ محطّمةٍ ينفذ الخراب إليها يوماً بعد يوم، أمّا الأب العليل فلم يتبقّ له سوى بضعة أشهر ليعيشها، فيسعى جاهداً ليراه، ولا يرى بدّاً من أن يرسل جوهانا زوجة ابنه ورنر لتقنعه بمقابلة الأب مشترطاً عليها نيل حريّتها ورحيلها مع زوجها عن المنزل في حال نجاحها في مهمّتها الموكلة إليها.
تدخل جوهانا لترى فرانتز مخفورة بمخاوفها التي تجلّت عندما أبصرته فوق دخولها غرفته وهو يخاطب هتلر في الصورة التي وضعها فوق رأسه ويندمجُ في هلوسةٍ أقرب إلى الجنون وقد صنّف قانون المحاسبة الذاتيّة كدافع له لأسر ذاته محاولاً تحرير مخاوفه التي تكتّم عنها طويلاً، وتكتشف بأنّ ليني كانت تنقل له الأخبار المغلوطة حول انهيار ألمانيا وقرب فنائها وأنّها أخفت عنه مرض أبيه.
يحاول سارتر أن يوحي بأنّ غراماً خاصّاً قد زحف بدبيبه على صدر الشاب المجنون نحو جوهانا التي مثّلت له نوعاً من التنفيس عن الكبت العارم الذي يعرّب له نوعاً من الفلسفة التعليليّة بأنّ فهم الذات لا يتمّ إلّا عبر تجاوز هذه الذات، وليس المكوث معها في خلاء مطبق. وتتقرّب جوهانا إليه لتقرأ اعترافاته على شفتيه ومن خلال تصرّفاته فتتكشّف لها حقيقة بطولاته المزعومة التي تخلّلها الكثير من الفاشيّة التي تفجّرت من خلال الحاق الأذى بمن حاصرهم وسجنهم خلال خوضه الحرب الدامية.
هذا الوعي الصافي الذي يصيب فرانتز فجأة من خلال التحليل الوجودي الذي خضع له خلال حديثه مع جوهانا جعل الحقيقة تسطع أمامه لينير ككشّاف النور الذي يتناول التجربة بالمعالجة كي تظهر فيها التراكيب العينيّة، فيعلن لها موافقته بأن يرى أباه ولا يأبه بأنّها تقرّر هجره بعد أن اكتشفت بأنّه لم يكن سويّ الأخلاق خلال مشاركته في الحرب، بل أنّه أذعن لشيطان المكر والاستعباد الذي عامل به الأسرى الأعداء وكذلك رفاقه في الجيش.
يدرك فرانتز بعد مقابلته لأبيه بأنّه نسخة مصغّرة عنه، وأنّ الأنانيّة المفرطة والنرجسيّة العمياء ونظرية «بروتوس» الخائن تجمع بينهما، فيرحلان سويّاً عن المنزل وقد قرّرا الانتحار معاً، بينما تصعد ليني إلى غرفة فرانتز لتحلّ مكانه في عزلته الاختياريّة.
تعرف على هذه العارضات الاسيويات الممتلئات يبهرون في عالم الموضة
نجح سارتر في وضع المدرسة الظاهراتيّة في عراكٍ مستعر مع المدرسة الوضعية، وابتكار مدرسة خاصّة للأخلاق يقوّم من خلالها سلوك الأبطال الذين أحبطتهم هزائمهم والمواقف البيروقراطيّة التي فرضتها السياسة من حولهم، فانتابهم انحلالٌ متفكّك، يتّسم بالغرابة التامّة، وجسّد أفكاره من خلال حوارٍ فلسفي يدور في كلّ مشاهد المسرحيّة وهو القائل بأنّ كل فلسفة تطبيق، ولهذا تعمّد محاكاة الانسان الذي يدور حوله الكون ويفرض ما يريد في معرفةٍ توحيديّة، محدّداً الفرد بمشروعه وكيانه، لأنّ مرحلة الاستلاب التي يشكو منها فرانتز وتعصف بوجدان جوهانا أسيرة العقم الإنساني الذي دبّ في كيان الأسرة تفقد الوجود الموضوعي المتعلّق بهما، وهما نقيضا بعضهما بعضاً، فجوهانا هي عاشقة للحريّة بينما فرانتز ناسكٌ في صومعة العزلة والجنون المتطرّف.
بول سارتر فيلسوف المراحل المتجانسة في الوجود، فرض نفسه كعالم اجتماعيّ يتصارع مع الخلل المتربّص في قاع النفس البشرية الخرساء التي تكتم ما تعلم وتظهر ما لا تعلم حتّى توافيها الفلسفة الوجوديّة التي أسّسها سورين كيركغور وكان هو أبرز روّادها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر جريدة الجمهورية: 5/6/2024