الثلاثاء 19 مارس, 2024

ربما ! (روعة يونس)

روعة يونس

—————

ربما !

تشبهني..

المرأة  التي تحاول الدخول، دافعة الباب الزجاجي بظهرها، تحمل طفلاً في الثانية من عمره، ولا يبدو منها سوى شعرها الأشقر المنسدل على كتفيها، ووجه صغيرها الشاحب كشعرها.

كل الجالسات؛ كن ينظرن إلى بعضهن، كأن كل منهن كانت تدعو الأخرى للقيام من مكانها ومساعدة المرأة، التي اكتشفنا أنها دخلت صالون تصفيف الشعر بظهرها لأنها تجرّ بيد واحدة عربة طفلها على السلالم.

منعتني الفتيات والسيدات صغيرات السن من النهوض نحو الباب للمساعدة. أظن أنهن توقفن عند مظاهر ما! سني المتقدمة، هيئتي كأمّ أنيقة، مظهري اللائق؛ من اكسسوارات خادعة تبرق كذهب أصلي! مع سيجارة “مور” أطول من أصابعي، وابنتي الحسناء إلى جواري تحدثني بالإنجليزية، وبتصنّع أردد “آي كان بليفيد” هاهاهاها “نو وي”.

حين دخلت، دعوتها للجلوس إلى جواري. اعتذرت لاهثة، وأشارت إلى غرفة جانبية صغيرة: لدي عمل في الداخل.

ثوان قليلة ما بين اعتذارها وإشارتها إلى عملها، كانت كافية لأحكم عليها. أنا المرأة التي قضيت عمري بلا انطباعات أولية، أحكم على الآخر بحدسٍ لعين لا يخيب!

لحقتُ بها إلى الغرفة. قالت: حاجزة موعد مدام؟

قبل أن أجيبها، مدّت أصابعها إلى وجهي بحركة عاجلة صعوداً وهبوطاً.. بدت لي مستاءة حين قالت: وبر خفيف أشقر!

تقدمت صاحبة الصالون، ابتسمت لي، وحاولت جذبي إلى الخلف، موضحة أن ثريا هي عاملة تنظيف البشرة وإزالة الشعر، التحقت قبل يومين بالعمل في الصالون “بس ديروا بالكن يا جماعة، ثريا مو أي كلام! كان عندها صالون ملكها وعلّمت نص بنات (داريا) صنعة الكوفيرية والتجميل” ثم التفتَت إلى ثريا قائلة “خسارة اليوم لسى ما في مواعيد، اقعدي وانتظري يمكن الله يبعت لك رزقة ابنك المسكين”.

لا أدري بالتحديد هل كانت “المسكين” سيخ نار أو سكين جزّ قلبي. لم أجدني إلاّ وأنا أندفع إلى الغرفة مجدداً، أغلق الباب وأشدّ المرأة من يدها، وعيني على صغيرها، أحادثها ونظراتي إلى وجهه.

ما به ابنك؟

– مريض منذ 3 أعوام

ثلاثة أعوام؟ كم عمره إذاً؟

– أربعة أعوام، لكن المرض أفقده وزنه وأعياه.

ما اسمه الله يحفظه

– عزيز على اسم والده الشهيد

بعد كلمة “شهيد” تنفتح القصص على كل المشاعر، وتفتح الأحاديث باب احتمالات قد لا يحتملها القلب الذي لم يختبر الفجائع والوجائع.

فبعد أن خسِرت تباعاً بفعل الحرب الوحشية؛ بيتها وصالونها وأهلها وزوجها، أنجبت ابنها بعد استشهاد والده بيومين قبل أوان مولده. تحنن عليها من بقي في الجوار من أقاربها قبل أن يهاجر أو ينزح. لكن الجميع مضى، وبقيت وحدها مع ابن ينهشه مرض السرطان وتنهشها الحاجة للمأوى والعلاج والعمل. ولم تُصادف من يساعدها دون أن ينهشها!

قلبي الذي ذاق كل وجائع الحرب، لم تهزه من حكاياها أكثر من قولها “كنت أظن هدر الكرامة في بيع جسدك. إنما حفاظك على جسدك لا يمنع عنك الذل! فما قيمة المحافظة على شرف، تمرغت صاحبته في وحل الحاجة والانكسار والمهانة”!

قلتُ لها كلاماً كثيراً عن الأمل في شفاء ابنها، وعن أهمية كونها حصلت على عمل، وأن الحياة ستمضي ويتعافى عزيز وتتغير الأحوال ويصير لديها بيتاً ومحلاً، كما كانت قبل الحرب.

كان يأس قلبها، وانكسار روحها يجيبانني: الذل.. آه من الذل!

فقلت لها بحسم: لا يجب أن تشعري بالمهانة والذل لأن البعض يساعدك ويعينك، فالناس للناس.

قاطعتني: كل ما تقولينه، لا يخفف عني. فأنتِ لا تعرفينه! لم تختبري القهر ولم تعرفي الذل.

قلتُ لها: ربما !

لم أخبرها أنني كنت أقول لها، ذات ما يقلنه لي صديقاتي.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *