الثلاثاء 19 مارس, 2024

مناقشة مسألة الدينيات في المجتمع اللبناني

مناقشة مسألة الدينيات في المجتمع اللبناني عند مشير عون

د. خالد كموني

ليست الفلسفةُ سوى الغوص في المِقَرَّة إلى قاعها، حيثُ القرار الوسيع، هناك يرى الناظر تأثيلَ أصله، فيهدأ مُوار الطريق ويثقب البصرُ نواةَ الفكرةِ الكُورةِ التي غادرت مجال الحِوار إلى سكون القرار. يغرفُ هذا المغامرُ من رأيه في أصلِه ويدحمُ نفسَه دحمًا وقذفًا إلى فوق، حيث السطح، الحدث، الواقع المرئي، والعيش الكسَّاب، فيدعمُ ما ينطق به لسانِه، وينبثقُ في الناس بصوت جديد، يكون تعزيزًا لشعور قارٍّ في ذاته الغوَّاصة إلى مخزنِها العتيق، هذه الذات الموَّارة بمظرها الجديد، الحوَّارة بعودتها وانبعاثها الأبديين، الكوَّارة بصلابة أصلها العريق كلما جدَّ في العيش طريق.

هنا، تفصيلُ كل رأي، يأتي حرًّا، حرًّا لا حادَّ لإيمانه بهذا الفهم، حرًّا لدرجةٍ تربكُ الآخر الذي يقابله بفهمٍ مؤمنٍ حرٍ يضاهي اعتقادًا شدَّةَ حضور هذا الرأي الأول في الكون. فهل يتَّسع الكون لحُرَّين؟ هل يشترك الأحرارُ في العيش بسلام؟ هل الحرية نسبية؟ هل الحريةُ والحق فيها قرارٌ واحد أم تأثيل قرار عند الجميع؟ ذلك أن الفعل الثاني يشير إلى إمكان توزُّعها المبدئي بين الفاعلين المناضلين في سبيلها، بينما النظر إليها قرارًا قبل إجراء الغوص فهو الفعل الكفيل بتذرُّرِها واندثارها، لأنه تجاوزٌ لسلطة الغمار على تشكيل ما يسمى السطح، فالبحر ليس ماء الشواطئ بل هو عالمُ البحر المغمور المستور المغطى لكثرة انجماع الماء. وحضور ما في القرار إلى السطح من دون فعل غوص يدلُّ على أن الهائم على وجه الماء جثَّة، تضرُ ولا تفيد، لأن الإنسانَ يحتاج إلى الزمان، أي إنه يوقِّتُ حراكَه كلَّ آن، فلا ينتظرُ وقتًا ليحدثَ ولا ينكص إلى انتقاء أزمنة سابقة وحشرها في وقت المضارعة والحضور. الحضور زمانُه منه وفيه، ولا يمكن الرجوع عنه، لذا فلنحضر كما يليق بالحضور أن يكون، أي كما نشاء بشرط إحضار القرار بعد رحلة الغمار والموار نحو كورة الأفكار.

***

نبدأ مع مشير من حيث الوضعية الإيجابية في التفاعل مع سمةٍ غير ميمونةٍ اتَّسم بها الاجتماع اللبناني، إذ يقول “أما القول بفوائد التنوع الطائفي، فلا يؤيده الفكر النقدي إلا إذا عاين إيجابياته الشاملة… بعد أن ضمنت… أسقطت” (ص 9)، فندرك منذ البداية أن المؤلف يحتاج إلى مثل هذه الوضعية دفاعًا عن فكرةٍ تبدو أثيلةً في إحضارِها المعطى الأصولي في الطرح. فيكمل ويقول: “لست من مصفِّ الذين يجرمون الطائفية وينعتونها بأبشع الأوصاف. فإني أعلم علم اليقين أن أصل الإعضال اللبناني ليس في الطائفية، بل في طبيعة الاجتماع السامي المشرقي العربي الذي منه ينحدر الاجتماع اللبناني… أما الطائفية التي يعتمدها أهل المشرق العربي، فإنها خاضعة لتوترات الوعي الديني المذهبي، ولتشنجات الفكر الأحدي الاستئثاري، ولانعطابات المجتمعات العربية البنيوية. هي الطائفية المبتلية بأسقام الوعي العربي تتهدد الأفراد والجماعات، وتقذف بالجميع في لجة الفساد والانحطاط” (ص 11)

هنا نقفُ مع مشير لندرِكَ هواجسَه، فنعرف دواعي غوصِه إلى القعر لاجتثاث رؤيةٍ من كُنْه الأصل. فهو يتحدث عن “اللبنانيين” فيعدُهم حالةً خاصةً تفترق عن المحيط المتوتِّر وعيًا، والمستأثر فكرًا والمنعطب اجتماعًا، وفي ذلك موقف أيديولوجيٌّ بارز، يشير إلى مخاوف من الانتماء الواسع، ويبشِّر بالانكماش الضيق. وفي الانكماش شعور بالأمان عند الخائف، إذ إنه كلما نظر حواليه سيجد نفسَه قادرًا على رؤية أبعاده، فيجود بالحديث عن القيم العليا والمثل السامية والإنسان والكون والحياة عمومًا، ذلك أنه استغنى عن حدوده الفعلية في التفكير، ورسم لنفسه حدودًا بدائيةً، كل ما ينتجُ منها لا يؤثرُ إلا بما يخدمُ هذه الوضعية الانكماشية، فيقذفها كيفما اتفق في العالم، فيجد تلقفها سريعًا من الاجتماعات الكبرى، عندذلك يظن أنه عالمي في طرحه، والحقيقة هي أن العالم هو المؤثر فيه، لأنه استغنى عن متانة اجتماعه القادر على إحضارِه معرفيًا في الكون.

يقول مشير: “وحين أحاول أن أستفسر عن أسباب تولُّه اللبناني بالسلطة، أعود فأتذكر محن التاريخ المشرقي العربي الأليم، فأستحضر انعطابات المنعة الوجودية في القبائل والعشائر العربية وأتخيل عبورية المقام الإنساني وضآلة زاده الكياني في مضرب الخيام الصحراوية. واللبنانيون ورثوا مرارة هذه العبورية وأضافوا إليها اضطهادات السلطان الأجنبي والعربي منذ أقدم الأيام” (ص 23). ما أخطرَ هذا القول!؟

العربيُّ غير العبوري، فعرب المكان أي حضر فيه وقطن ومكن فأقام، ومكان العروبة عندئذٍ هو الحاضرة، والحاضرة قوامها الماء والزرع والترحال العالِمُ الكاشف في هذا الكون، أما العبريُّ فهو البدويُّ الرحَّالةُ دومًا، غير المستقر، إذ لا قرارة له في مكان حاضرةٍ وكشف، فصحراء العرب مدى إبداعي وليست مكان ارتحال عبثي، والعرب يقطنون الواحات ويعيشون حيث الماء، ويزرعون كي يثبت المكان، أما العبري فلم يقرَّ يومًا في ديار أو حاضرة، فلنقرأ تاريخ العبور والبداوة، ولنقارن بتاريخ العروبة والحضارة في بلادنا. حتى أن القرآن الكريم، وهو التجلي الديني العربي الأخير، لم يقم للبداوة اعتبار، فهو يخاطب الحضر، وورد “الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (سورة التوبة 97)”.

وتنكشف هواجس الهوية عند مشير من ربطه الاعتراضي بين الدين والهوية في الذهنية العربية، وهو يستخدم مصطلحات مثل “السامية”، وهي هوية أسطورية افتراضية، لا دلائل تاريخية عليها، بل كل ما في الأمر هو أن شعوب هذه المنطقة عربت أمكنتها من كنعانيين “سكان الكنع أي الوادي”، إلى السوريين أو الأشوريين إلى العقديين أي الأكديين، إلى السومريين، إلى الأقباط وفراعنة النيل…، فيقول في التكوينية الثانية: “التواطؤ المحكم بين الانتماء الديني والانتساب العرقي أو القبيلي. فالدين عند أهل المشرق العربي ناشب في أصل الهوية، بل قل هو الهوية الأصلية” (ص 47). نعم لذلك، يجب أن نقرأ الدين بحسب الفهم العربي للدين، ووظيفة الدين في المجتمع، ووظيفة النص القرآني في المجتمع. فالقرآن ليس نصًا مقدسً بلغةٍ مقدسة، بل هو بلغة الناس، ولغته لا نزال نتكلم بها، لذلك لا يمكن تجاوزه، فهو ليس معطى طقوسي بل منهج كشف وعلم ومعرفة، سواء آمنا به أم كفرنا، فإننا من الناحية العلمية لا يمكننا البحث فيه إلا بما هو بلسان عربي مبين.

أما من جهة الحرية، فإن مشير لا يرى إمكان الحرية في الأديان التوحيدية، ويعدها استئثارية إلغائية. هنا، نقول لو أن تفكير مشير صحيح، ولكنه ليس حصريًا في الدين، بل إن كل فكر أو معتقد هو إيمان بشيء على حساب شيء آخر، فالإيمان بالإسلام، مثلًا، هو كفرٌ بغيره، حتى لو أن الإسلام اعتمد الإيمان فيه على الإيمان باليهودية والمسيحية وكل ما أنزل من عند الله.  مع أن الإيمان بالمسيحية مثلًا لا يقتضي الإيمان بالإسلام، والإيمان باليهودية لا يقتضي الإيمان بالإسلام، ولكن في كل الأحوال إن الإيمان بشيء يجبُّ ما قبله، فهذا في البشر طبع. يقول مشير: “فالأديان التوحيدية التي نشأت في هذه الأرض لا تطيق التعدد وتستكره التنوع… وكل توحيد قاهر من طبعه حتى لو اتصف بأسمى خصائل الرفق والوداعة” (ص 48).

أخيرًا، يشير مشير إلى التفكر الديني اللاهوتي الكلامي في لبنان، فيجده عند أمثال : “إغناطيوس هزيم، جورج خضر، بولس الخوري، غريغوار حداد، يواكيم مبارك…موسى الصدر، محمد مهدي شمس الدين، محمد حسين فضل الله، محسن الأمين، محمد أيوب، عبد الله العلايلي، صبحي الصالح،  كمال جنبلاط… مساعيهم تحت راية الدين الرسمي” (ص 53)، هنا نقول، إن الإشكال الديني في لبنان، ليس منفصلًا عن الإشكال الديني العربي، فإن تطوير أساليب الفهم وإعمال المناهج التحليلية النقدية اللغوية المعاصرة، والمتطورة في الفهم هو خير سبيل إلى وعي وظيفة الدين في المجتمع. أما التمترس وراء مخاوف وهواجس الأقلية والأكثرية، فهذا لا يجدي، إذ إن كل البلاد لنا أينما ذهبنا، بشرط أن تكون الكلمة سُكنانا.

وإننا إذ شددنا على الفهم العلمي للمعطى الديني، فلأننا أمام مفكر يطرح “العلمنة الهنية”، ولكنه مسيحيٌّ في طرحه، متوافق مع معتقده، مقبول بصدقه العَقَدي، وجلء موقفه الحضوري في وطنه. يقول: “من تجليات التفكر العقلاني القول بأن الدينيات اللبنانية تحتاج إلى ابتكار تصور في الله يضعه في صميم الكيان الإنساني، بحيث يغدو الله سر الإنسان الأعمق… على هذا الوجه أعاين ما تواتر إلينا من اختبار الله في وعي السيد المسيح وسيرته…” (ص 62). فلئن وعى مشير حضوره بوعي المسيح في الكون، فإن التفكير العلمي هو الكفيل بفهم هذا الدور، وهو الذي يقدم هذا الحضور الذي يحتاجه العربي اللبناني في كيانه.

****

(*)أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية -كلية الآداب – الفرع الثالث.

(**)  القيت في ندوة حول  “الفلسفة في معترك الإصلاح في الاجتماع اللبناني” انطلاقًا من كتاب مشير باسيل عون “أهؤلاء هم اللبنانيون؟” الصادر عن “دار سائر المشرق” .

المصدر

https://aleph-lam.com

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *