الخميس 25 أبريل, 2024

الياس أبو شبكة وسعيد عقل

الياس أبو شبكة وسعيد عقل في معراج “المجدليّة”

  د.منيف موسى

    “المجدليَّة”، أو مريم المجدليَّة. و”المجدليَّة” لقب لها، و هي من بلدة “المجدلة”، ومكانها اليوم “المجدل” على الشاطئ الغربيّ من بحر الجليل، وعلى بعد ثلاثة أميال شمالي بحيرة “طبريّة” بحسب “قاموس الكتاب المقدّس”، وفي زمانها صارت إحدى تلميذات السيّد المسيح، بحسب “الإنجيل”.

    و”المجدليَّة” هذه، هي غير تلك المرأة الخاطئة التي سكبت الطيب على قدمي المسيح ومسحته بشعرها، في بيت سمعان الأبرص في بلدة لعازار بيت عنيا … وغير تلك التي قامت بمثل هذا في بيت لعازار … وهي أيضًا غير تلك المرأة الزانية التي جِيء بها إلى يسوع للحكم عليها، والتي فيها قال قولته: “مَنْ منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.”

    وإنّما مريم المجدليّة فقد كانت معروفة بجمالها، وكانت ذات ثروة، ومن عائلة لها مكانتها في منطقتها، ولكن المجدليّة هذه، قد مسّها احتلال شيطانيّ فسكنها سبعة شياطين، فأصبحت تمثّل الخطيئة الشيطانيّة، فابتعد الناس عنها وابتعدت هي عنهم، إذ كانت تعلم أنّ جزاءها الموت رجمًا بحسب الشريعة اليهوديّة … أظهرت محبتها ليسوع، أو قل حُبَّها، فشفاها المسيح من الشياطين. وعلى إثر ذلك لحقت يسوع في حلّه وترحاله وتجواله في المدن والقرى تخدمه وتستمع إلى أقواله، إلى جنب تلاميذه وتلميذاته، فاستحقت نعمة المغفرة، ونالت الغفران الإلهي. وقد وضعت مجدها الدنيويّ في خدمة المجد السماويّ الإلهيّ فخلصت بالنعمة. وهي، أيضًا، التي شاهدت، محاكمة يسوع وصلبه ودفنه وقيامته. وقد وقفت إلى جنب والدته مريم العذراء، عند أقدام الصليب.

    وهي أوّل من بكر إلى قبر السيّد لتطيب جسده، وهي أول من ظهر لها السيّد المسيح بعد قيامته، حيث قال لها: “يا مريم” فأجابته وقالت له بالعبريّة: “ربُّوني!” أي (يا معلّم …) فقال لها يسوع: “لا تمسكيني، لأنّي ما صعدت بعد إلى الآب، بل اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم: “أنا صاعد إلى أبي وأبيكم، إلهي وإلهكم”. فرجعت مريم المجدليّة وأخبرت التلاميذ بأنّها رأت الربّ وأنّه قال لها هذا الكلام.

    لم تكن مريم المجدليّة، إذًا خاطئة، ولا عاهرة، ولا زانية، كما هو سائد عند العامة، وعند غير العارفين بالكتاب المقدّس وبسيرة السيّد المسيح، أو كما هو شائع بين الناس، كلّ ما في الأمر، أنْ كانت ممسوسة شيطانيًّا فأبرأها السيّد المسيح من مرضها، وخلَّصها من عذاباتها النفسيّة والجسديّة فأصبحت طاهرة، قديسة. فهي، إذًا، حواء الجديدة، الأنثى الجديدة، فكانت شاهدة على حياة السيّد وموته، وكانت رسولة القيامة، وقد أقامتها النعمة من بؤرة الشرّ، لتكون “أوّل مَنْ رأى النعمة القائمة من بين الأموات”.

    في هذا الفضاء الإلهي غير المتناهي، الذي يلفّ الكون، أقلّه المرئي، وفلسفيًّا الكون الآخر القائم على إيمان العقل والرؤى العجائبيّة، ومنها الشّعر، راح شاعران من عندنا، هما: الياس أبو شبكة وسعيد عقل فكتب كلٌّ منهما قصيدة في الحدث العظيم: تلاقي المسيح والمجدليّة وجهًا لوجه، والمعايشة الشفيفة في مدار الحُبّ والمحبة، فكان الإبداع الفنيّ الشعريّ مشهديّة العِشق الصافي في هيولى المعراجيّة الناهضة نحو الله. وإذا كان الياس أبو شبكة، في قصيدته الطويلة “غلواء”: [ط. 1، 1945] قد قال: “أفق يا حُبُّ من هجعتِكْ/ فسيّد الآلام في بيعتِكْ/ أحَبَّ حتى مريم الزانيهْ!” يقصد مريم المجدليّة فإنّه قد وقع في خطأ تاريخيّ وإنجيليّ في آنٍ معًا. فالزمن أصبح “يوم الخلاص” الذي وصلت إليه مريم المجدليّة عبر الإيمان والقيامة.

    وفي سبيل معراجيّة المجدليّة، صاغ الياس أبو شبكة قصيدته: “المجدليّة والمسيح” وأطلقها في 11 تشرين الثاني السنة 1923.[ راجع ديوانه الأوّل “القيثارة” الذي صدر لأوّل مرّة العام  1926].  وهي تقع في خمسة وأربعين بيتًا. وتتحدّث عن مرحلتين مهولتين هما: الأولى مرحلة الحُبّ المصلوب من أجل السلام والعشق الرائع، والثانية، بعد عشرين جيلاً، وتتناول الخلود إذ: “في سماء الخلود خيمة زَهْرٍ/ حيث عيسى ومريم قد أقاما …/ فعذاب الساعات كان خلودًا/ أبديًّا، ولم تكن أحلاما./”

    وفي العام 1937، نحت سعيد عقل قصيدته: “المجدليَّة”، مؤتسيًا بالياس أبو شبكة في المناخ الشّعريّ والموضوع. وقد جاءت في مئة وتسعة أبيات موزّعة توزيعًا إيقاعيًّا، بشكل جُمَلٍ ومقاطع لفظيّة، فكأنها رسمٌ سمفونيّ لقصيدة طويلة ذات مقطّعات شعريّة موسيقيّة متنوعة القوافي، وكأن شاعرنا قد لجأ إلى ما يُعرف بالشِّعْر المقطعي [أو المقطوعي] (Strophic verse)، “وهو الشّعْر الذي يتكوّن من عدد غير منتظم من الأبيات، مع تغيير القافية، أي أنّ الشاعر يغيّر القافية بعد كلّ مجموعة غير محدّدة العدد من الأبيات حسبما يرى.” وهذا مستفاد مما في الشعر عند الفرنجة، وهو عندنا محاولة في البحث عن الجديد في معمارية الشّعر العربيّ الحديث، وسعيد عقل في مجمل شعره أفاد من العروض الفرنسية وأنظمتها، وكأنه كان من أوائل البادئين في حركة تحديث الشّعر، الذي عُرف فيما بعد بالشعر الحرّ. أو كان ماهدًا له!. وفي مطلق الأحوال كانت “المجدليّة” قصيدة شكّلت خرقًا للسائد المحرّم في بنية القصيدة العربيّة التقليديّة، وهي، وندّتها “شيراز” للشاعر نفسه، معالم أساسية في تعديل أسلوبيّة البناء الشعريّ الحديث والمعاصر في لبنان وعند العرب … وهذا ما نصّ عليه سعيد نفسه في مقدمة قصيدته. وكانت هذه المقدمة، أصلاً، محاضرة ألقاها سعيد عقل في ندوة حول “كيف أفهم الشّعر” العام 1937، في القسم الثانويّ في الجامعة الأميركيّة في بيروت … ومهما يكن الأمر في مفهوم الشّعر وعروضه عند العرب، فإن قصيدة “المجدليّة” قد شكّلت مدرسة شعريّة في الشعر الصافي. ونشير هنا إلى أنّ الشاعر قد أمرَّ القلم على قصيدته في طبعات لاحقة، حيث وصل إلى الصفاء الأتمّ!

    وإذا كانت “المجدلية” قد ارتقت شِعْريًّا على يدي أبو شبكة وسعيد عقل على ما هي عليه في الكتب، عندنا، فلعلَّ لجبران خليل جبران، أيضًا، تأثيرًا في المسألة؛ فقد جاء في كتابه “يسوع ابن الإنسان” في فصل “المجدليّة”: تقول المجدليّة: “… ولكن في ذلك اليوم ذبح غروب عينيه (أي يسوع) الوحش الذي كان فيّ، فصرتُ ميريام، مريم المجدليّة”. وقالت عن يسوع: “… لم يبقَ لي سوى الحياة فقط. والرغبة في أنْ أكون وحدي لتضرب أصابعه على أوتار قلبي”. وقالت: “مرةً ثانية أقول إنّ يسوع بالموت غلب الموت. ونهض من القبر روحا” و قوة … و لكنكم لا تعرفون الأمهات اللواتي يذهبن الى القبر في عذريتهن و لا الرجال الذين يذهبون إلى قبورهم مختنقين بعطشهم …” ولما انقضى السبت وكان صباح يوم الأحد جاءت مريم المجدليّة إلى القبر باكرًا فوقفت عنده تبكي، فظهر لها يسوع، وناداها، يا مريم، فعرفته، فقالت: “ربُّوني” أيْ “يا معلّم!” وكانت أوّل مَنْ ظهر لها من تلاميذه وإخوته … فهي إذ ذاك على مستوى يوم الصلب والموت والدفن والقيامة، والتفاتتها إليه التفاتة الإيمان والحُبّ الذي صار وهجًا إلهيًّا!..

    فمريم هذه، التقيّة النقيّة البريئة، إذا شاء القدر أنْ يشوّه صورتها، وإذا كان العالم الأرضي القاسي يدينها، ويتكلّم عليها بكلام بطّال، حسبها، إذا سلّمنا جدلاً في الأمر أنْ تكون كما قال الشاعر المهاجريّ نسيب عريضه: “الجوهر السامي يبقى بلا رجسِ/ كم مومسٍ تمضي عذراءَ للرمسِ./” وهي عند أبو شبكة: “هذه مجدليّة الحزن جاءت/ تطرح الحُبّ للمسيح طعاما/ طالما في الحياة غذّته بالحُبّ/ وروّته من هواها مداما/  … هو رمز لقلب مريم، رمز/ لغرام، رأى الحياة سآما/ … فتوارى ينام في الموت لكنْ/ قد أعدَّ الخلودَ فيه مناما/ … ولدن أبصر الحبيبة تبكي/ أطبق الجفن في الخلود وناما./” وهي عند سعيد عقل: “سفح الله، غبّ نشوته، قارورة الحسنِ في صحاري البريّة …/ وإذا للحياةَ أمنيّة الحُبّ وللأرض مريم المجدليّة/ … ووهت زهرة اللذائذ في سرّ يسوع تقول: يوم أراه/ “عند شاطئ الأردنّ بين الخميلات، تلاقى يسوع والمجدليّه/ أبصرته يذرذر الشَّعْرَ فجرًا ويردّ الأبراد وهجَ عشيّه/ تتكي رحمة العُلى، بين جفنيهِ، اتكاءَ السنى بحضن البريّهْ./”

    وتمضي قصة المجدليّة والمسيح في تناغم ربانيّ مرتكزه اللاهوتي إيمان بعظمة ابن الإنسان المتجسّد كلمة في جوهر البشرية وسموّ السماء، فكان هناك: “في وجوم السماء والأرض إرهاف لنجوى المسيح والمجدليّه./”

    وكان نداء وجدان ووجيب قلب، فإذا يسوع اندفاع الأحلام في بال عذراء وبسمة على ثغر أمٍّ. وفي غفوة الصباح “باحت المجدليّة الآن أم صلّت؟/ صارحته بالحب و الكون ساه / لا يعي

و الزمان لا يتوالى / فإذا الرّدّ من يسوع جفون تتسامى وجبهة تتعالى/!…” ما التسامي في لوعة الحُبّ المندى ببراءة العشيقين؟ … “وارتمت زهرة اللذائذ هيمى عند رجلي يسوع حرّى المآل/ تسأل الحُبّ إنْ غرامًا وإن قُدسًا وكفان مُدّتا لنوال/.”

    وأعرض المسيح عنها، لا كُرهًا أو احتقارًا، ولا ذلّة أو ازورارًا، بل محبة وحفظ شأن، وهي التي كان المسيح حلمًا بالنسبة إليها، فإذا النجوى بينهما، صافية كما لبنان: “يا ربيب الخيال، يا أفق الفكر، فداك البياض من حرمون/.” لكن الحُبَّ ضنًى وبُعْدُ مآل، فذي المجدليّة في حُمّى العشق الإلهي: “تلثم الترب توبةً، ويسوع يتوارى في جهمة الأدغالِ. ” وهي لم تنعم بمرآه، وإذا دموع المسيح قد غدت جناح ملاك، راح يفتش عنها ويحنو، وقد التقاها: “ذات يوم تسحب الذُلّ وسط غلف الجباه/ وشفاهٍ تصيح: “ويها! ألا ارجمها” وحكم يهمُّ عِبْرَ الشفاهِ/ يرتمي ذلك الجناح عليها فيراها الإلهُ ظلّ إلهِ./”

    هكذا تقضّت ظاهرة المسيح والمجدليّة في قصيدة سعيد عقل، وهي تنضح بالرأفة والمحبة والبعد الوجداني اللاهوتيّ القائم على معادلة الإله – الإنسان، في علاقة حُبٍّ من وسم سماويّ فريد فيه من توتر النفس وصفاء الأُلوهة علامات التساوق بين الله والبشر، كما في قول السيد المسيح: “طوبى لأنقياء القلوب، لأنّهم يعاينون الله”. وقد عاينت مريم المجدليّة الإله المتجسّد إنسانًا، وفيه مجد السماء وسموّ الرائع والروح المعزيّ والإنسان المرتفع نحو الكمال من خلال مصير بني البشر في الملكوت المعدّ لهم منذ إنشاء العالم … وهذا كلّه قائم على معادلة الفرح والألم المطهّر الذي هو النار المقدسة التي تصقل الجوهر ولا تحرق من هُمْ على صورة الله ومثاله، إذ هم مباركون في الأرض وفي السماء.

    وأمّا علاقة الوفاق واللقاء بين المسيح والمجدليّة، في مفهوم الياس أبو شبكة الإبداعي، فهي قضيّة موت وفداء ومسألة حُبّ وسلام، إذ: “مات فوق الصليب من كان يهوى/ ويرى الحُبَّ للنفوس سلاما/ فصليب الآثام ما زال حيًّا/ وصليب السلام صار رغامًا./” فالمسيح مات من أجل السلام، سلام الأرض والسماء، وموته كان الفداء والحقّ والحياة، فتصرخ المجدليّة: “جئت توحي روح السلام إليهم/ ما لهم عزّزوا بك الآثاما./”

    على الرغم من دعوة المسيح إلى المصالحة بين الله والإنسان العتيق فإنّ محبته البشر وتعليقه على الصليب، بهما صار الإنسان إنسانًا جديدًا، وخليقة جديدة. ولا يزال الشرّ مستشريًا في العالم، وإذ قد تطهرت المجدليّة من كلّ شرٍّ، فعسى أنْ يكون الدمع غسلاً للآثام، وبحسب أشعيا النبيّ “يمسح السيِّد الربّ الدموع”، ولكنْ: “لا تموت القلوب إنْ سكبت في/ جوفها أنمل السماء غراما/ نظرت نظرة الوداع إليه/ فبكت أدمع الهيام سجاما./” والمسيح الحبيب بذل حتى أمدى ما يكون البذل: “فسلام الوفاق صار حروبًا/ وصليب الوئام صار حساما./” فيا يسوع هاتِ سوطك واضرب به فريسيّي عصرنا، تنقذنا من حمأة اللعنة، فنرث السماء!

    تلك هي بعض ملامح صورة “المجدليّة” في قصيدتي الياس أبو شبكة وسعيد عقل، وهي صورة ترسم أمامنا – شِعْرًا – لوحة قدسيّة، أو أيقونة من زمن الحُبّ والرحمة والفداء والرجاء، بألوان إيمان نقيّ صادق، رفع من خلاله الشاعران حدثًا دنيويًّا إلى مصاف القداسة في وهج تجلٍّ معراجي يرتقي فيه الإنسان إلى درجة علويّة. وإذا “المجدليّة” قد صارت رمزًا للعِشْق الإلهيّ في شطحات نورانيّة أو انجذاب صوفيّ، يوحّد بين الله والبشر، فيصير الإنسان في قلب الله، والله في قلبه، فيصرخ من أعماق أعماقه: “قلبًا طاهرًا أخلق فيَّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدّد في داخلي.” وترنّم “المجدليّة”: “دعوني أنشد لحبيبي نشيد حبيّ …” فمَنْ لا يحبّ، لا يعرف الله! … و”المجدليّة” قد أحبّت، وأحبّ المسيح، فكان لقاء بين الأرض والسماء!

    وأحبّ الياس أبو شبكة، وكان فذًّا في الناس والشعراء على تكوين شخصيّة مزاجيّة عصبيّة مثقفة حمّالة لغة الرومانسيّين، والحياة عنده لا تساوي قافية في بيت شِعْر …

    وأحبّ سعيد عقل على عنجهيّة وكبر، وكانت القصيدة عنده أغنية للجمال، والكلمة نحت إزميل من ماس، يلعب بها كالساحر الماهر، وربما رفعها عمودًا من أعمدة بعلبك، يدعم بها قبّة السماء! على اعتداد نفس و”تبهير” صوغ كلام.

    وكلاهما أبو شبكة وسعيد عقل عرّجا في جواء “المجدليّة” على ناحية من نواحي سماء الشّعر، فأبهرا!؟

المصدر

https://aleph-lam.com

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *