الخميس 28 مارس, 2024

بين ريشة وقلم حليمة بريهوم

بين ريشة وقلم حليمة بريهوم

أديبة ورسامة جزائرية

علي .أ. دهيني

ولدت بعد نيّف وعقود لتحكي لنا ما حمله رحم ذاكرتها طوال مدة الحمل التي زخرت بالكثير من المحمول الثقافي المكتسب والمتراكم إلى حين بدأت مرحلة المخاض فالولادة.

الأديبة والفنانة التشكيلية الجزائرية حليمة بريهوم، ظهرت فجأة في عالم الإبداع “قلماً” و “ريشة”، لتقدم لمتابعها أعمالاً تتنقل بين المدارس التجريبية ريشة، أو الكتابات التمهيدية رواية ونثراً.

ففي الكتابات القلمية كانت روايتها الأولى “ليل وطيف” تبحث فيها عن أغلى قيمة في العلاقات الإنسانية وهي الحب، فدبجت صفحات الرواية في هذه العلاقة حصراً لتؤكد على نزاهتها حين تكون نعمة ربانية ينعم بها الإنسان بعيداً عن الدنس والتكاذب. و “متى تعلن فطامي” وهي مجموعة وجدانيات نثرية عبّرت فيها عن مكنون دوافن مشاعرها وانفعالات أحاسيسها بلغة سهلة قريبة إلى القلوب تجعل المتلقي يشعر أنها موجهة له.

وفي الريشة أخذتنا إلى عالمها بتكثيف ما عبرت عنه موضوعات لوحاتها التي أندمجت اكثر ما اندمجت في المدرسة التعبيرية أو الرمزية التي من أشهر مَن قدم فيها الفنان روزيني في لوحته بياتريس. وهي مدرسة تعبر عن الإحساس والمشاعر العاطفية. فهذه المدرسة التي ربما وجدت الفنانة حليمة نفسها من روادها دون قصد منها، أعطتها مساحة واسعة من الترميز الخيالي لتقدم للبصر الباحث في لوحاتها عن الموضوع، ما يرضي ذائقته الفنية في كثافة اللون والرمز.

قدمت لنا حليمة بريهوم جملة من اللوحات سنتوقف عن بعضها، لنتعرف أولاً على مخزون حليمة الثقافي، وبالتالي على قراءتها لإحساسها ومشاعرها الصامتة وقد أودعتها بعض لوحاتها، وهي لوحة “أنا”.

تظهر هذه اللوحة عينان متباينتان، في الشكل تتشابه وتتخالفا مضموناً، واحدة تحاكي الواقع والثانية تحاكي الداخل. وتداخل اللونين الأزرق والأحمر، تعبير عن هدوء نفسي مفقود ، كما أنه يبدو استحضار للتراث أو الموروث الثقافي المتمكن من النفس والمسيطر عليها من خلال تعاريج الخطوط ومحاولة فصلها عن بعضها بخطوط منقطة من المدرسة التكعيبية، مما يجعل تداخل الماضي والحاضر ينعكسان في ذات النفس. ويأتي امتزاج الألوان يحاكي تجدد الأفكار المكبوتة رغم أنها واضحة وجلية، وهو من المدرسة الوحشية او ألنفسية، إلاّ أن الريشة أخذتها إلى التمويه أو الترميز، وسردت فيها الكثير من الأفكار المربكة، الإيجابية والسلبية، يواريها الخوف والحذر المتواريين في التكثيف اللوني وتعاريج الخطوط.

من المفيد الإشارة إلى أن للمبدع أن يقدم أفكاره وأعماله للمتلقي كما يشعر بها وأن يترك للمتلقي أن يقرأ ذاته في عمل المبدع.

إن الإرث الفني والثقافي عند حليمة، محكوم ببيئتها التي توليها عناية كبيرة، فالحذر من سوء الفهم، والحرص على الالتزام ببيئتها الاجتماعية، جعلاها تواري الكثير من أفكارها الجريئة التي يمكن اكتشافها في العديد من لوحاتها.

في لوحة “رقص تحت المطر” تبحث عن الشريك الغائب في الشكل وفي المضمون حيث جعلته ظلاً يتمايل معها عبر المرآة، يراقصها ليفرغ شحنات من المشاعر يصعب أن تترجم في الواقع، حتى ولو في الكلمات، إنما في الضمير، ولا تخفى الحيرة في الصراع مع الذات، بحيث جعلته يتحرك كظلها من خلال انعكاس المرآة. قد لا ترى العين المجردة لكن الشعور موجود. يبقى اعتماد اللون الأسود كتعريف للحزن أو للتعبير عن الرغبة في البكاء.

هنا يمكن الحديث كثيراً عن كوامن النفس حين تتوجس وتتحسس من إشهار دوافنها، وعساني نتيجة تقاربي مع أفكار الرسامة، أن أدرك الكثير مما لا يعلن من أعمالها من الناحية الموضوعية أو الجمالية، ناهيك عن فهم ما ترجوه من تقديم أعمالها، كونها ترغب دائما أن توجه رسالة إلى المجتمع لتنذره بأن الموروث الثقافي والعادات والتقاليد التي ملأت إرهاصتنا وتحكمت في نضجنا وسطت عليه، إنما علينا أن نجهد في السعي إلى تطويره بما يتوافق ومتطلبات العصر في مختلف الميادين، لا أن نبقى أسرى نمارس سلوكنا دون تفكير كأدوات يحركها هذا الموروث.

في لوحة “العين” نتساءل أمامها ماذا تريد هذه النظرة إلى العالم، ما هو المطلوب؟.. العين دائما تراقب كل شيء وقد تغلب عليها الحيرة في تقييم ما تراه، وتشغلها الأمور الصغيرة كما الكبيرة.. حتى الفضاء بكل مداراته ينحصر في هذه العين . تستعين الرسامة بالمشهور في التعريف عن العين، بأنها صفحة النفس الصامتة، لأن قليلا من الناس من يقدر على قراءة ما في النفوس من العيون، لذا نشاهد في قاعدة اللوحة شفاه مطبقة صامتة لعلها تخشى أن تقول ما تفكر، لأن العين هنا ليست للنظر بل للتأمل لأنها عين للعقل. ودائما كثافة اللون حاضرة في أعمالها كتعبير عن شخصيتها.

دائما نجد في وعي حليمة حين ندمج بين ما تكتبه وبين ما تقدمه لوحاتها، أنها تثور على المتناقضات التي يخلقها الإنسان بنفسه لنفسه، تريد منه أن ينطلق إلى عالم رحب يتوسل من هذا الفضاء ما يغني ثقافته ويطور سلوكه وينضج وعيه ليكون قوة خلاقة في مجتمعه.
الكثير يمكن أن نقرأه في مجمل لوحات حليمة، كما أرى أننا سننتظر الكثير منها قلماً وريشة، وهي قد بدأت رحلة الانطلاق خارج الحدود الجغرافية التي ولدت وترعرت فيها، حيث شاركت في أنشطة ثقافية داخل خارج الجزائر.

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *