الجمعة 29 مارس, 2024

امرأة الأساورِ الّتي، حينَ تُغنّي، تضحك..

امرأة الأساورِ الّتي، حينَ تُغنّي، تضحك..

رجاء بكريّة

“..وأنتِ أحتفظُ لكِ هناك بصوَرٍ كثيرة، منذ كنتُ أضعُ دبّوسا فضيّا في شَعري أيّام الجامعة، وأُبقي خصلاتِه فالتة على كتفيّ تغنّي “أحكي للعالم أحكي له”، وأفرح..”

82862-1315129554صاخب صباح اليوم الّذي أتى بعدكِ يا ريم، بالذّاكرة!

ذاكرة تتساءل عمّا لا نجيدُ فعلهُ، والّذين نعشق عطاءهم على قيدِ الأمل. هل كنتُ أتوقّعُ حُزني عليكِ؟ لا أعرف، ربّما لأنّي لم أتوقّع أن أحزن. بقيتُ على ثقة أكيدة أنّك أقوى من المرض كلّما طالعَتْني صورَكِ اليوميّة الّتي تتحدّى الحياة بعينها.

بالعادة، كلّ الّذين يقاومون الحياة يعرفون جيّدا علاقتهم بالذّاكرة لأنّها أشدّ لمعانا من قطعة معدن تقاوم حضورها تحت شمس حارقة. القطعة الّتي نعيشُ وَهْمَ حُضورِها حين تتناثر إلى غبارِ ضوء أكثر ممّا نعيشُ واقعها، لكنّها في الحالتين حالة حضور طاغ لا يُقهر.

مثلها كنتِ تحت شمس حارقة تتحدى اللّهب لتعيش وفق شروطها هي، بحضور يطغى على الألم الّذي ناورك حتّى الرّمق الأخير. بقيتِ تمدّين عينيك لسهول تقيم بَعدكِ كي تسبقي الوقت بذاكرة. لا أعرف أقوى من الذّاكرة في كسرِنا نحن البشر. تظلّ طازجة مهما تقادم عليها الزّمن. وأنتِ أحتفظُ لكِ هناك بصوَرٍ كثيرة، منذ كنتُ أضعُ دبّوسا فضيّا في شَعري أيّام الجامعة، وأُبقي خصلاتِه فالتة على كتفيّ تغنّي “أحكي للعالم أحكي له”، وأفرح لأنّ كثر لا يعرفون الأغنية الّتي تتجوّل في شَعري حتّى قرّرتُ أن أحكيها لرجُلٍ ظهرَ في حياتي فجأة، وأحببتُهُ بعمق لمجرّد أنّه يعرف أغانيك كلّها.

أذكر ضحكتي الغريبة، وأنا أعثر على رجل من وهج أغنيتِك الهامسة تلك يتجوّل بين أغانيكِ وضحكتكِ. وبعد أغنيتك بقيتُ أتساءل عن شكل الأساور الّتي ليديكِ. كانت المرّة الأولى الّتي أفتّش فيها عن أسباب معقولة للبس أساورَ تُخشخِشُ، بكِ فهمتُ أنّنا لا نعرفُ جماليّات أشياء كثيرة في حياتنا، نحن الفلسطينيّين. فتنتني حركة رفعِ اليد المزركشة بالسّلاسل والخواتم. وهل أكشف لك من هذا البعد أنّك كنتِ سبب عودتي لخواتم الفضّة والحلق؟ كنتُ نفيتُ الخواتم والحلق من عالمي حتّى عثرتُ على أنوثة قلبي في تلك الخواتم، خواتمكِ. نعم لم أجرؤ على السّلاسل والأساور الّتي تُخشخشُ، لكنّي استعضتُ عنها بأساور عريضة تُعلن عن عُنقِ ذراعي. هل تسمعين عن بعدِ يومٍ واحدٍ من رحيلكَ اعترافات روائيّة تسحر قرّاء بأنوثة حرفها، كم جدّدتِ في قامات أبطالِها، وأناقة أقراطِها؟ معكِ فهمتُ بعض عوالمَ سريّة عن حياة النّساء حينّ يغنّين، ذلك لأنّي اعتقدتُ في طفولتي أنّي سأصبح مغنّية تملأ مسارح وليس روائيّة تطلقُ أبطالا للورق كي تملأ بها الفضاء.

ربّما عثرتُ عليك كبديل عن شخصّيتي الأخرى المتخيّلة الّتي تغنّي غير الأخريات والآخرين. هذا النّوع من الغناء البسيط التّلقائي، الّذي لم نكُن نعرف أنّه يستطيعُ أن يكون هويّة لكينونتنا في مكان يغرّبُنا كلّ يوم عن أنفُسنا. أذكر أنّي يومَ سمعتُكِ أوّل مرّة قلت، ” يا للهول، تغنّي كما تتحدّث” لم أفهم معنى هذا اللّون من الغناء حتّى فهمت هويّة قلبي، حتّى عَشِقتُ هوى بلدي. في الحقيقة ما كنتُ بحاجة لواسطة كي أصغي لفتنة الرّوح الّتي تناثرت فيّ بعد أن سمعتُكِ للمرّة الأولى على مسرح. لا أعرف كم تأخّرتُ عنّي، لكنّي أعرفُ أنّ عمر الجامعة في التّسعينيّات لم يكن فاصلا زمنيّا طويلا بالنّسبة لعمر الإكتشاف.

هكذا عرفتُكِ بقدرِ ما أردتُ أن أعرف زَمني. وبقدر ما أحببتُ تلوين الأغنية حتّى شعرتُ أن لحن الأغنية الفلسطينيّة يجب أن يأخذ مسارا جديدا. لم يتسّع اللّحن الّذي سمعتهُ للحُلُمِ الّذي أريدهُ لملاعب أغنية منوّعة مُلوّنة لحنا ومنحى لنا، لكنّي احترمتُ خياراتك. لم يكن الغناء ملعبي لكن مسرحي الشّعوريّ الّذي أردتُ لملاعب القلب المزدحمة بكلّ شيء أن تُزاحِمَ عليه. بحثتُ عن بصمة الهويّة في مسارات عطر انقلابيّة، نعم تماما هكذا،، منكِ ومن سواكِ.

ميلانو كانت آخر محطّات لقائي بكِ في مهرجان فلسطينيّات. كنتِ بعد المرض معافاة الأحاسيس، والحضور. لم أتمكّن من حضور أمسيتك لأٍسباب لا تتعلّق بي تماما، لكنّنا اجتمعنا في ساعة متأخّرة على عشاء احتفاليّ. كان يومي الأخير في المدينة وكنت قد وصلت للتوّ. استقبلتُكِ كسيّدة مكان. أحببت دوري في احتضانِ حضورك. زحمة الوجوه لم تتح لنا تبادل حديث قريب، خلا عفويّة السّؤال  والجواب. هكذا غادرتُ أنا فجر اليوم التّالي وبدأت أنت حضوركِ عبر أمسيات صوت ولحنِ يليقانِ ببساطة فتنت حضورك مع محبّيك.

لكن، حكايتي معكِ لم تنتهِ هنا، طوال لحظات انتظاري في المطار وعودتي فكّرتُ بكِ ليس لأنّي كنتُ فارغة من الهواجس الّتي تلتهمني كلّما خلوتُ قليلا لنفسي بدون قلم ومرافق، وما أكثرها، ولكن استحضرتُ فجأة العالم الّذي لا أعرفه عنكِ، والمسافة الّتي تفصلُ آخر مرّة التقيتكِ في حيفا ذات أمسية وعشاء برفقة زوجك وولديك، والمرّة الّتي التقيتكِ فيها وحيدة بدون مرافقين خلا هاتفك الّذي وصلكِ بالملابس الّتي لا يعثر عليها صغاركَ في الدّواليبِ وأنت بعيدة. تأمّلتُ الحياة من الزّاوية الّتي نعرفها نحن عن الّذين يتقاسمون معنا مساحات الرّوح في وطن لا نلتقي به تقريبا أبدا، تساءلتُ لماذا لا يعثر الإعلام على مناسبات يجمعنا فيها معا؟ لماذا التّفرقة بيننا هي سيّدة الحالة. هواجس لا آخر لها رافقتني طول الطّريق من ميلانو حتّى مطار تلّ الرّبيع. حين استيقظت تذكّرت أنّكِ كنتِ الصّورة الأخيرة الّتي غفت في ذاكرتي، كما هذا الصّباح تماما حين استيقظتُ ووجدتُ جسدكِ ممدّدا في عينيّ. وضَعَتْهُ صديقة لم أستظرف فِعلتها تحت خبر رحيلكَ المفاجىء الموجع على صفحة التّواصل الإجتماعي.

حين تناثرَ السّؤال هذه المرّة، أردتُ ألا تجمَعُنا المناسبات الإجتماعيّة إذا كنّا سنلتقطُ لحظات رحيل وننشرها لنؤكّد مشاركتنا غير البريئة في لحظات وداع، لأجل ذلك تماما لا أحتمل الجنازات، ويرهبني الموت حدّ احترامِ وقعِهِ من بعيد وحسب. في مثل هذا الصّباح المُرّ بحقّ أوقّعُ سلامي عليكِ،، يا ريمَ الفلواتِ، والأساور الّتي في يديكِ تضحك..       

حيفا ـ 25 مارس 2018

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *