الجمعة 29 مارس, 2024

“العَيْن الخَفشَة” للرّوائيّة رجاء بكريّة

“العَيْن الخَفشَة” للرّوائيّة رجاء بكريّة*

تنويحة النّكبة بحواسّها الخَمس

د. كوثر جابر قسّوم

“. ..والتنويحاتُ والمواويلِ التي كانت تنوحُها الجدَّةُ صبيحة وتشلَعُ القلبَ في الرواية، لهي موروثٌ ماجدٌ، وظّفته الكاتبةُ  فأثارَ الذكرياتِ والشجنَ في وجدانِنا،  كما أشارَ إلى ثقافةٍ  كاملةٍ راسخة في وعيِنا الجمعيِّ الفلسطينيِّ….”

thumbnail_unnamedنحنُ أمامَ روايةٍ هامّةٍ وقويّة برأيي، سطّرتها الروائيّة الأولى في بلادنا، الكاتبة رجاء بكريّة، بحرفيّة باهرة. حيث أثبتت مقدرتها على خوض موضوع مغاير لرواية “امرأة الرسالة”، روايتها السّابقة، (الصّادرة عن دار الآداب،07)، فأعادت حكاية النكبة، لكن بمنهجها المتفرّد في الرؤية والفكر، وبوعيها الذاتيّ لمفهوم الظلم والاحتلال.

هنالِكَ الكثيرُ مِمّا يُقالُ عن روايَةِ عين خفشة ومواضيع لن أتحدَّثَ عنها. لن أتحدّثَ عن جرأةِ الكاتبةِ في خَوْضِ موضوعٍ  وثيمات جديدة مغايرة لرواية “امرأة الرسالة”، عن توظيفِ التّناصِّ والأسطورَةِ، عن ملامح الأدب النسويّ وقصَةِ الحُبِّ الجارفةِ، عن تشظّي الزمَنِ، عن غَرابةِ الإسنادِ وخرقِ التراكيبِ اللغويةِ السائدةِ، عن اللهجةِ الفلسطينيّةِ المحليّةِ… بل سأتحدَّثُ عن أمورٍ أدهَشَتْني في الروايةِ… عن مقوّماتٍ إبداعيّةٍ وتلاوينَ أسلوبيّةٍ سطّرتها الكاتبةُ بمهارة فضَمِنَتْ لنفسِها روايةً ناجحَةً وهامّةً.

  1. عن الهاجس السياسيّ:

تعيدُ رجاء بكريّة في رواية عين خفشة حكايَةَ النكبةِ. أي تُعيدُ كتابةَ التاريخِ، وقد نتساءَلُ، هل ما زلنا بحاجةٍ للكتابةِ عن النكبةِ؟ ألم نقلْ كلَّ شيء عن النكبةِ شعرًا ونثرًا على مدى سبعين عقدًا؟ ألسْنا بحاجةٍ إلى الكتابةِ ربّما عن همومٍ أخرى معاصرةٍ تربكُنا وتحيّرُنا ؟

 أوّلًا، لعلّه لا غرابةَ في أن نكتُبَ عن النكبةِ ثانيًا وثالثًا. فنحنُ شعبٌ نغمّس السياسة يوميًّا  ونأتدمها من وقع تجربتِنا التاريخيّةِ وواقعِنا اليوميِّ المحتدمِ بالصِراعِ. وفي ضوء انشغالِنا الدائمِ بمصيرِنا المرتَهِنِ بالمتغيّراتِ السياسيةِ، لا يمكن إلا أن نعيدَ مخاطبة السياسةِ في الأدب والمسرح والسينما وغيره.

 ثانيًا، يكتبُ الروائيُّ عن قضيّتهِ السياسيّةِ من خلالِ رؤيتِه الخاصّةِ للأحداثِ والشخصيّاتِ. وإذا لم يبيّنْ رؤيتَهُ الخاصّةَ سينزلِقُ إلى إعادَةِ سَرْدِ التاريخِ المعروفِ بأسلوب مكرور، دونَ أن يعمِّقَ في وعْيِ القارئ الإحساسَ به.

ثالثًا: إنَّ الروايةَ يمكنُ أن تكونَ وسيطًا في إعادَةِ كتابَةِ التاريخِ، لكن يظلُّ ذلك ضمنَ شُروطِ النوعِ الروائِيِّ، وَمعادَلَةُ الروايَةِ والتاريخِ معادلَةٌ مُعقَّدٌة تستدْعي ذكاءً ومهارَةً من الروائيِّ لكي يستطيعَ أن يزاوجَ بينَ عناصرِها.

وفي روايتِها “عين خفشة”، أعادتْ رجاء بكريّة كتابةَ تاريخِ النكبَةِ لكن بمَنْهَجِها المتفرِّدِ في الرؤيَةِ والفِكْرِ، بوعيِها الذاتيِّ لمَفهومِ الظُّلْمِ والاحتلالِ، ولوعيِها بكذبةٍ تريدُ فضحَها، أو حقيقَةٍ تريدُ إلقاءَ الضوءِ عليها. لكن، بالمقابل، لم يكن بإمكانِها فعلُ ذلكَ لو لم تكن تجربتُها جماليَّةً فنّيّةً كذلك.

  1. رواية المكان

يحقُّ لنا أن نسمّيَ الروايةَ بروايةِ المكانِ، ولا شكّ أنّ قريةَ “عين خفشة” تحديدًا هي البطلُ الفعليُّ للروايةِ، وهي اسمٌ متخيّلٌ لقريةٍ فلسطينيّةٍ تقعُ على الحدودِ القريبةِ من لبنانَ قريبًا من قريةِ الغَجَرِ. في علاقةِ لبيبة بجدّتِها تغدو قريةُ عين خفشة موقعًا للكشْفِ عن ضُروبِ الحنينِ الفلسطينيِّ إلى البداياتِ ومعانقَةِ الحياةِ ما قبلَ الاحتلالِ، وعلى لسانِ جدّتِها، فهمتْ لبيبةُ حكايةَ شعبِها ومأساتَه وشكلَ الحياةِ بعدَ الاحتلالِ.

والحقيقةُ أنني كلّما تذكّرتُ أو تصوّرتُ رواية “عين خفشة” تتراءى إلى مخيّلتي صورةٌ واحدةٌ مرعبةٌ: مظلةٌ عملاقةٌ سوداءُ من قافلة صقورٍ وغربانٍ تحلّقُ في سماءِ “عين خفشة”، تطلقُ أصواتًا مرعبةً وتتساقَطُ الواحدةُ تِلْوَ الأخرى، ترمي بمناقيرها إلى عُمقِ الأرضِ وتنهشُ أحشاءَ الجثثِ المدفونةِ ثم تعودُ إلى مواقِعِها. تلك الجثثُ التي كانت تصلُ بها شاحناتُ الجنودِ الإسرائيليّين  القادمة من المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان، وتُفْرِغُ حمولَتَها في مقبرةِ الأرقامِ الّتي ضيّقت عيونَ قرية “عين خفشة” بصغيرِها وكبيرِها.

هذه الصورةُ القاتمةُ هي رجعُ الرواية في ذهني، وبرأيي أن مشهد الغربانِ وهي تُغير على جثث الموتى، والذي تكرّر في الرواية بصيغٍ واستعاراتٍ مختلفةٍ، يعتبرُ من أقوى المشاهِدِ البصريَّةِ وأكثرِها تأثيرًا في الرواية، بل هو الذي صنعَ حكايةَ قرية عين خفشة.. تلك القريةِ المغلَّفةِ في حضنِ الوادي المنْسِيِّ وزيّنها بالغموضِ والتشويقِ.

“وصف لنا بدر العبد الله ما حدث، قال، “رأيتها عن بعد، عصابة من الصقور الجهِمة، تقف بموازاة نقطة ما تحدّدها بدقّة هدّاف، ثم تغير في الموقع. تهبط هبوطًا صاروخيًّا. تحفُّ التراب، تنقضّ على شيء ما تخطفه من عمق الأرض، وتعود إلى السماء. تعيد المشهد على أقلّ تقدير خمس أو ستّ مرّات متعاقبة في اليوم، وتذهب، ثم تعود في اليوم التالي” (ص39).

وفي طريقةِ وصفِ الكاتبةِ لهذا المشهدِ تقنيّةٌ فنّيّةٌ في الوصفِ المكانيِّ تُسمّى “وجهة نظر عين النملة” (The Ant’s Eye View)  بعكس وجهة نظر عين الطائر (The Bird’s Eye View)؛ ففي “منظور عين الطائر” يكون الوصفُ من وجهةِ نظَرِ مُراقبٍ يشرفُ على المنظرِ من موقعٍ عالٍ، وتبدو الأشياءُ صغيرةً وضئيلةً تحته، أما في “منظورِ عينِ النملةِ” يكونُ الوصفُ من الأسفلِ، من خطِّ الأرضِ الذي تسعى فيه النملةُ، فتبدو الأشياءُ ضخمةً وكبيرةً. إن نقطةَ التبئيرِ المكانيِّ الذي اتّبعتهُ الكاتبة رجاء بكريّة جعلَ مشهَدَ “المافوق” من الغربانِ والصقورِ السوداءِ مُرعبًا ومخيفًا، الأمرُ الذي ضاعفَ من إدراكِنا الحسّيِّ والبصريِّ للوَصْفِ وأحدثَ تأثيرًا قويًّا فينا/ في القارئ.

  1. اللغة الشعريّة

تمتازُ لغةُ روايةِ عين خفشة بلغتِها الشعريّةِ الاستعاريّةِ وهي إحدى خصائصِ كتابةِ رجاء، بل إن الاستعارةَ ملعبُها الذي تصولُ وتجولُ فيه. واللغة الاستعاريّةُ تضاعفُ من عاطفة القارئِ ومن انطباعِهِ لموضوعِ الوصفِ، والروايةُ باستعاراتِها قد ضاعفت من عاطفةِ القارئِ في أكثرِ من تقنيّةٍ، سأذكر تقنيّتيْنِ منها:

العاطفةُ المستعارةُ: تشير نانسي كريس في كتابها “تقنّيات كتابة الرواية (2009) إلى أنه “من الممكنِ إثارةُ عاطفةِ القارئِ من خلال ما يُسمّى “العاطفة المُستعارة”، وذلك بالاقتباسِ عن الأغاني أو الأشعارِ أو الأفلام أو الروايات السابقة أو أعمالٍ فنّيَّةٍ مختلفةٍ. إذ تشكّل هذه الأشياءُ رموزًا نوعًا ما لأنها ليست محدودةً بنفسِها” (ص185-186).

والتنويحاتُ والمواويلِ التي كانت تنوحُها الجدَّةُ صبيحة وتشلَعُ القلبَ في الرواية، لهي موروثٌ ماجدٌ، وظّفته الكاتبةُ  فأثارَ الذكرياتِ والشجنَ في وجدانِنا،  كما أشارَ إلى ثقافةٍ  كاملةٍ راسخة في وعيِنا الجمعيِّ الفلسطينيِّ.

“يا خويي البْعيد لو تِعْرِف جَمِر قلبي الشاعل لَجيت عاصْفِة، أو برْقِة بليلة من ليالي بْكايي عليكْ. يا خويي الغالي، ولَوْ ولا مِرْسال مع حَمامِ العلّيِّة اللي هَجَرْ وراكْ! يا ريت قلْبي يِنْطِفي جَمْرو بْعُبّ قُمبازَك. مْقلَّم قُمْبازُه البنيّ، ومعَلَّم بوردةِ المرجلِة سؤاله!..(ص12).

استعارة الحواس: تتميّز الكتابة الإبداعيّة الجيدة بحضور بارز للحواس؛ ذلك أن الحواسّ تغني النصّ بالتفاصيل الشيّقة. غير أنّه غالبًا ما يتمُّ إهمالُ الحواسّ في الكتابة الإبداعيّة، خاصّة الشمِّ والذوقِ واللمسِ، والتي تشكِّلُ ببساطةٍ جزءًا من الوصفِ الناجح، وإذا استُعملت بمهارةٍ من شأنها أن تولِّدَ عاطفةً تفوقُ تلك الناتجةَ عن الوصفِ نفسِهِ. وفي وصفِ الكاتبةِ  في الرواية توظيفٌ واسع للحواسِّ وبقوّةٍ إيحائيّةٍ كبيرةٍ. أورد على المثال مقطعًا أفردته  لحاسة الشم واستعاراتها المختلفة:

“لكنَّ ما فتَنَ مخيِّلَتي أنّ حكايات بدر العبد الله بأدغالِ عوالِمِها الشيِّقةِ باتت تبعَثُ رائحةً تشبهُ احتراقَ الخشبِ مكانَ الحبقِ، تتسلّلُ رائحتُها من مُؤخَّرةِ الجُمْجُمةِ، كلّما سَعَرني الشوقُ وشواءُ الجُبْنِ حولَ موقدِ الذاكرةِ. بدأتْ حكاياتُ الطفولة تَنْشَوي ببطءٍ وتنسلخُ على عجلٍ إلى أمكنةٍ لا نتوقّعُها” (ص221)

 4  الجوّ الغرائبيّ:

من التقنيّاتِ المميِّزةِ للروايةِ إغراقُها في الجوِّ الغرائبيِّ للمكانِ، حيث تلجأ الكاتبةُ إلى تدميرِ المرجعيّةِ الجغرافيّةِ للمكانِ، مازجةً بين عالمِ الواقعِ وعالمِ الخيالِ. كما أنها تميلُ إلى اقتناصِ ما هو مشبَعٌ بالبدائيّةِ والحياةِ الأولى، فتبدو “عين خفشة” مكانًا أسطوريًّا يُلهِب المخيّلةَ ويستحثّها من جهة، ولكنّها من جهةٍ أخرى تتّسِمُ بما تتسمُ به القريةُ الفلسطينيّةُ من الأجواءِ الشعبيّةِ والطابعِ الفلاحيِّ الرعويِّ والحِرَفِ القرويّةِ. ولا شكَّ أن طاقةً كبيرةً من الإيهامِ والمناورةِ تتوفّرُ في الروايةِ في هذا الشأن.

وعادةً ما يشملُ الجوُّ الغرائبيُّ لحظتيْن تخييليّتين: التعجيبُ والتغريبُ، سأعرض لحالة واحدة هي  التغريبُ. والتغريب حينما نكون أمام حدثٍ يتركُ أثرًا سلبيًّا على نفسيَّةِ المتلقّي؛ لأنّ الحدَثَ مستهجَنٌ إما لغرابتهِ وإما لشذوذه وإما لما يبثُّهُ من هَلَعٍ وخوفٍ ورعبٍ إلى درجة القلقِ.

وقد برعت رجاء في وصفِها الغرائبيِّ الصادمِ بمبالغاتِه وانزياحاتِه الأسلوبيةِ، حين أغارت أعدادٌ هائلةٌ من الصقورِ على رأسِ عساف التايه وأخذت -بانتقامٍ شرسٍ- تنقرُه في كل مكانٍ من جسدِهِ حتى صرعتهُ وتركته جثةً هامدةً.

“لفّ سيجارته بمتعة حقيقيّة. كان يرمق الطيور المسترسلة لغفوتها الأخيرة، ويزداد انتشاء. أشعل سيجارته فوق جثث قتلى ليسوا من أقاربه بعد الآن، لكنّه وهو يعبّئ ناظريه بدماء المجزرة فوجئ بسرب من الصقور ينقض على رأسه. لم تكن رأس عسّاف جمجمة بعد، ولكن الطير الشرس كان جادًّا في انتقامه. بدأ ينقر رأسه وعسّاف يصرخ مستنجدًا. حاولت ناعسة أن تتصدى للأعداد الهائلة التي أرّخت غلّها فيه، لكنها لم تتمكّن من إنقاذه. تركته وجرت تستنجد بكل الاتجاهات دفعة واحدة. عاجزة ووحيدة نادت رعاة الناحية لكنّ أحدًا لم يسمع. كان عساف في معركة حقيقيّة مع طيور الشؤم تلك. يضربها بمثل ما تضربه. يمد يده إلى سرواله باحثًا عن سكينه، ولا ينجح في الوصل إليه. الصقور تنقر كلّ شيء، ملابس عسّاف، رأسه ووجهه وأطرافه بعنف. […] حين وصل رجالات القرية إلى بيت عساف التايه كانت الطيور قد صرعته وذهبت. أبقته جثّة بلا حراك. نقرته في كل مكان من جسده. لمحها الشيوخ تزعق في الأعلى محتفية بإنجازها العظيم، وعلى بعد أمتار من جثة عساف وسيجارته المشتعلة تناثرت أجساد الصقور المدمّمة” (ص281-282).

  1. رحلة البحث

تعتبر رحلة الشخصيّة في المكان من المعاني الهامة في رواية الحداثة، لأنّها تحمل في دلالاتها معنى البحث والسعي نحو الانعتاق وتحقيق الذات والحرّيّة. ويختلف مفهوم رحلة الشخصيّة في العمل الأدبيّ من حيثُ المبدأِ والأهدافِ، غير أنّه يشير دائمًا إلى إنجازٍ إنسانيٍّ أو اكتشافٍ ما في المكان. وقد قامت معظمُ شخصياتُ الرواية بهذه الرحلة: بدءًا من رحلة النزوح مع العمّ خير، الذي هُجّر قسرًا وقُتلت زوجته، ثم آسر، وبدر العبد الله، ولبيبة، حيث رحلوا ثلاثتهم من “عين خفشة” لاكتشاف ما وراء أرض المقابر التي ضيّقت عيون أهلها. وقد أتى هذا الرحيل كحاجة ملحّة للحدّ من قلقهم الوجوديّ، كما كانت أبرزُها رحلةَ لبيبة من قريتِها باتّجاه مقبرة الأرقام كخطوة ثوريّة تغييريّة بهدف اكتشاف المجهول وفضحِ المسكوتِ عنه وتوثيقِ الرواية.

  1. عنوان الرواية:

    بقي علينا عتبةُ الرواية، عنوانُها، والذي يسهل جدًّا تركيبُ أجزائِه بعد هذا المطافِ الشائقِ في رواية “عين خفشة”، فعين خفشة هي تلك القرية التي شهدت فعل “الخفش” في سائر جنباتها،  وفعل “الخفش” كان هو ما آلت إليه مصائر شخصيّاتُها.

خَفَشَهُ ، وخَفَشَ به : أي رَمى، وقد أحلتُ بإسهاب على المشهد الأبرز الذي أمسك بخط الرواية الأفقي وأثار الغموض والتشويق فيها ، حين كانت الصقور ترمي بمناقيرها وتخفش في الأرض وتأكل الجيف. وخَفَشَ الإِنسانَ وغيرَه : أي صَرَعه، وهو المصير الذي آل إليه عساف التايه، حيث خفشته الصقور والغربان فصرعته وأبقته جثّة بلا حراك بعد أن فضح حكاية خفشها في جثث مقبرة الأرقام. وخَفِشَتْ عَيْنهُ : أي صغرت، وفسدت جفونه، وهو المصير الذي كُتب على بدر العبد الله الذي ملأ البياض عينيه وجفّ دمعه فشخصت عيناه إلى السقف، ولم يستطع رؤية النور بعد أن عقد العزم على المغامرة لاكتشاف السبب حول زيارات الصقور والغربان المنتظمة للقرية فرأى الحقيقة الصادمة بأم عينه. وخفِش الشَّخصُ : أي ضعُف بصرُه في النُّور الشَّديد، فأبصر بالليل دون النهار،  ولا يفوتنا أنها القرية التي خفشت بها رجل المحتل فاستحالت إلى قرية مفزوعة لا يستكين أهلها، بل فقدوا توازنهم الروحي والوجودي فعميت أبصارهم وخافوا من كشف الحقيقة.

وبعد، فإن من يقرأ الرواية يشعر أننا لعلّنا لم نقل روايتنا بعد، وأن ثمة أوراق لم تُكشف عن النكبة عرضتها الكاتبة بحساسيّة جديدة. ومع أننا نأخذ على الكاتبة بعض المآخذ في الرواية مثل، رتابة السرد وبطء  الأحداث في القسم الأول من الرواية مقابل سرعتها واتسامها بالحدث والفاعلية في النصف الثاني؛ وعدم وضوح عمر لبيبة في كثير من السياقات؛ بالإضافة إلى تعارض مسافة عمرها مع مساحة نضجها منطقيًّا؛ وأخطاء نحوية هنا وهناك في النص، إلا أننا جميعًا – قرّاء ونقّادًا- نقف أمام رواية متميّزة بلا شك، وبرأيي أننا في كل مرة نقرأ نتاج الكاتبة رجاء بكريّة الجديد تتسع نظرتنا للعالم المحيط بنا ويصبح أكثر عمقًا، ذلك أن كتاباتها ورواياتها تحديدًا هي عوالم خياليّة أخّاذة، تجعلنا نشعر بالحياة الحقيقيّة  بقوّة أكبر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 *الجليل، فلسطين (في حفل تكريم الكاتبة على شرف توقيعها للرواية في المركز الجماهيري في أبو سنان،(شمال فلسطين) في 22.2.2018)

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *