الخميس 28 مارس, 2024

الياس أبو شبكة في نشأته

الياس أبو شبكة في نشأته وسيرته وحياته الوجدانية

د.عمر الطبّاع

elyas-1كانت ولادة الياس ابو شبكة في مدينة برفيدانس، عاصمة ولاية رود آيلاند الأميركية. فهو من هذه الناحية أميركي الولادة، ولكنه لبناني المنشأ، لأن أباه عاد به إلى زوق مكايل، وهو في الشهر الثامن من حياته، فقد ترعرع في أحضان الذوق البلدة الكسروانية المطلّة على البحر. ويمكن القول بأن الياس الصغير لم يعِ مكاناً غير هذه البلدة في طفولته وحداثته، ولذا كان شديد الولع والارتباط بها، منذ السنة الأولى من ولادته. ولذلك لا تعجب بهيامه بأجوائها وموقعها بين جبل حريصا والبحر المتوسط. ولا نرى ضيراً في الإشارة إلى طبيعتها التي حفظت انطباعاته الأولى عليها، وكانت الزوق المكان الأبرز المؤثر في حياته، فهو لم يمحض خلجات وجدانه لبلدة أخرى، كما محضها.. فقد كانت مصدر إلهامه وهيامه، ففي أحضانها اختلجت جوارحه الوجدانية منذ الطفولة المبكرة، وحتى اللحظات الأخيرة من وجوده.

وممّا قاله في التعبير عن ذكرياته الأولية: .. هذه الأكمات السبع من جبل حريصا، وهذا الخليج.. وتلك الأحراج الخضراء فوق تلك التلال أشبه بنسور سماوية، … ترى تلك الشلالات الخضراء على الهضاب من بكركي الشامخة وفوق تلك الأعالي، ترسل نظرها في البحر الذي يغسل أقدامها، وهذا المشهد الرائع في تلك البقعة المقدّسة، كما ردّد جميل جبر تلك الأسطر من ديباجة أبي شبكة، فيقول: هذا الجلد الصافي، وهذا

الأديم الطيّب وهذه الكنوز المتناثرة من يد السماء… لمن أوجدها الله لمن يراها … إن لم يكن للشاعر! كانت هذه الأسطر طليعة المشاعر التي دغدغت حنايا أبو شبكة في مهد حياته الأولى.

لئن كانت هاتيك الكلمات بداية الأبيات من قصيدة أبو شبكة في بلدته الأولى التي عشقها طيلة حياته، فكانت كذلك أولى خطواته في مدرسة الراهبات في الزوق، وهو لا يتجاوز العام الخامس.

وفي هذه المدرسة اغتذى بالمعرفة والعرفان سنتين، قبل أن ينتقل إلى معهد عينطوره، قاطعاً مسافة لا تتجاوز المسافة تلك بين منزله والصرح العريق حتى في إبّان الشتاء القارس.

صدمة التسعة!

أمضى أبو شبكة الثماني سنوات الأولى من طفولته على هذا المنوال من الرتابة، وفي التاسعة صدمته فاجعة موت أبيه، وهو لا يزال طريّ العود، فكان نبأ وفاة أبيه اشبه بصاعقة مؤلمة، لم يكن قادراً على احتمال وقعها، فأصابه بجرح عميق من الاغتراب النفسي، وكل ما يمكن قوله عن الياس ابو شبكة، الصغير، أنه في الفترة الأولى من اليتم، لم يع شيئاً من المعرفة، سوى مقاطع من الزجل كان يرددها خاله الياس فرزان على مسامعه، إلى جانب مقطوعات صغيرة من الشعر باللغة الفرنسية…

فقد كان الفتى الطريّ العود، يتذوق بدايات من الشعر الفرنسي قبل أن يبلغ سنة 1913، عندما أعلن في المعهد عن زيارة موريس بارس الروائي الفرنسي لعينطورة، وكان لهذا الخبر وقع باعث على الفرح في نفس أبو شبكة، إذ عرف أن هذا الزائر من الأدباء الفرنسيين الذين هتف وجدانهم للبنان وكتبوا عنه بحب جارف، فسارع إلى حفظ بعض من المقاطع الأدبية التي أنشدها هذا الأديب عن لبنان، وقد طالت العلاقة بين الياس ابو شبكة، وأدب موريس بارس، فقد كان يعاود الإطلاع على آثاره والإفادة منها، لأن بارس كان شديد الولع والاعجاب بلبنان ولوحاته الطبيعية. ويمكن القول بأن ما قرأه أبو شبكة من أدب ذاك الأديب العملاق انطبع في ذاته، وواصل بين الفترة والأخرى اطلاعه على مقتطفات من مؤلفات الأدباء الفرنسيين.

والحقيقة أن أبو شبكة لم يقتصر من نصوص الأدب الرومنسي على روائع بارس، فقد بدا مأخوذاً بالعديد من الأدباء الفرنسيين. وتعمّق في مراجعة مؤلفاتهم عندما تأثّر لبنان بظروف الحرب الأولى سنة 1918، وتعطلت المدارس عن متابعة رسالتها.. فقد وجد أبو شبكة نفسه، مشغولاً بشغف رومانسيّ جديد وهو الذي كان يقضي وقتاً طويلاً أمام الأمواج التي تتهادى على ساحل مدينة جونية، جامعاً بين القراءة ومطالعة الشعر ولا سيما الزجل منه، وصيد السمك. وهو في مطلع الثانية عشرة من عمره.

اهتمامه بتاريخ نابليون

ويذكر د. جميل جبر، فيما يذكر عن أبي شبكة، ميله إلى أدب روستان، واهتمامه بتاريخ نابليون بونابرت، كما اتسع هذا الارتباط بينهما إلى التعلق بالأدب الفرنسي عموماً، كما يتعلق بأبطال فرنسا، وفي مقدمهم الامبراطور الخالد الذكر، ومما هو قريب من هذه الظاهرة، ما أشار إليه، ادوار البستاني، وهو يعتبر من المؤرخين الذين كانوا يهتمون بالأدب المسرحي، مع حديثه عن أبي شبكة وإعجابه بالروائي جورج أبيض وزيارته لبنان والاشتراك بتمثيل رواية عن نابوليون، كما تحدّث عن تعظيمه للامبراطور الفرنسي ويشيد ميلفه إلى العروض المسرحية، وكيف كان عظيم الاهتمام بالقائد العظيم. وقد أدى هذا الاتصال الطارئ بالشاب الذي يعنى بالعمل المسرحي ومشاهدة الأدوار المسرحية ومنها ما كان شغفا بعروض المسرحية عن نابليون، وهذا دفع أبو شبكة إلى الوقوف مع الشاب المذكور على مدخل المسرح باللباس العسكري لاستقبال الجمهور، وكان اهتمام ابو شبكة بالرجل إياه، وجرجس ضباغ لاشتهاره بالشأن الثقافي، وقد حرص أبو شبكة على نشر مقالاته في مجلة المكشوف.

ان هذه الاهتمامات الفكرية كانت وأبو شبكة في حدود العشرين من عمره بل لم يكن يتجاوز الثامنة عشرة، وكان في أوج مطالعاته على الحركة الأدبية ودراسة نصوص من الأدب الفرنسي وبالأخص نصوص موريس بارس وادمون روستان الكاتب المسرحي وروايته فرخ النسر ومثل هذه الاشارات كانت عظيمة الدلالة، على أنّ الأديب الذي برز في بلدة الزوق، سيكون ذا شأن في الأدب العالمي فضلاً عن علو كعبه في الآداب العربية وأكثر من ذلك فقد كان يعمل بجهد وينفق وقته وما يدخّر لارواء عطشه إلى المعرفة الإنسانية عموماً، والفرنسية منها بوجه الخصوص.

إن إغلاق المدارس بسبب الحرب الكونية، كان فرصة لأبي شبكة، الأديب الناشئ لإشباع نهمه للثقافة عموماً، فتوقف المعاهد وفّر له الفرصة لمزيد من التعمّق دونما استثناء بالثقافتين الأجنبية والعربية. وكان اتصال أبو شبكة بالأديب الفرنسي جورج الصباغ للتذوق بالثقافة، سانحة جعلته على صلة وثيقة بالحركة الثقافية، لإشباع عطشه بالأدب المذكور ولا سيما المسرحي منه، وقد روى في المكشوف، مدى انقطاعه للأدب الفرنسي ونصوصه التي نعتها بأنها ضرب من الجمال والروعة.

بين العقل والقلب

كان كلامنا عن أبي شبكة وشدّة ارتباطه بالآداب ولا سيما الفرنسي منها، هو الجزء الأول من سيرته الحافلة، بالنشاط الفكري والولع بالثقافة الدخيلة، لكن الجزء الآخر، هو من الأهمية بمكان فقد كانت حياته موزعة بين عقله وقلبه، في الناحية الأولى كان يغتذي ثقافياً وينمي حب الاستطلاع عنده، ولكنه في الشق الآخر كان يغذي وجدانه عاطفياً، في قصة فريدة بدأت خيوطها الأولى عندما تلاقت نظراته بعين الحسناء الأولى في سيرة قلبه، وهي أولغا ساروفيم التي تربّعت على عرش قلبه واستبدّت بمشاعر نفسه فأججت فيه نار الهوى، وهي تسلك طريقها إلى الكنيسة وكان الشعور بينهما صادقاً وعنيفاً، فوقع حبّ أبو شبكة الشاب بقلب الشابة العذراء، وكانت كتب المطالعة بالفرنسية، هي فاتحة تلك العلاقة، التي تجاوزت حدود اللامعقول إلى ضرب من الهوس، ومع أن أبا شبكة اغرم بسوى هذا الحب الأول، فقد ظلت مكانة أولغا في كيانه أعمق وأرهف إحساساً بأية فتاة أخرى، وكانت الفترة بين بداية هذا الحبّ وزواجه من تلك الحبيبة من أروع حكايات الهوى. فقد نشأت تلك العلاقة، وتطورت، ورسّخت بين قلبيهما كأورع ما تكون في دنيا الحب، وأكثرها شقاءً وأشدها ارتباطاً، بل ضرباً من الجنون الوجداني إليّ، فإنّ مثل هذه المقالة غير كافية لوصف ذلك الهيام البالغ العنف والذي لم يكن يضعفه أو يقلل من وطأته أي حدث على الإطلاق، فقد كان أبو شبكة يخرج عن خطّ هذه العلاقة، لكنه كان بلا انقطاع لم يعرف سيرة حبّ أكثر إثارة من سيرتهما في جوانحه.

وأجدني ملزماً باستعادة فقرة قصيرة مما قاله د. جميل جبر عن هذا الشغف بين أبو شبكةَ واولغا ساروفيم، شغف لم تعرف حكايات ألف ليلة وليلة ما يضاهيه وما يكتنفه من وطأة الذوبان والعذاب. وكان الكتاب هو مفتاح هذا الهوس: – لقد – أعجبت الفتاة بحيوية الشاب الطري العود بشخصيته بحديثه، ولا سيما وأنها أحبت مطالعة الادب الفرنسي وحكايات الغرام.

… راح يعبرها روايات غرامية للامارتين وبرنودان ده سان بيير- وسواهما- يستعيرها من صديق له ليخط باللون الأحمر تحت العبارات المثيرة المعبّرة عن وجده بها، وأمه إلى هذا تدري عواقب هذا الهوى الجارف، ولا تستطيع أن تصدّه، انها نزوة المراهق لا بدّ أن تزول برّح به العشق وأدمن شرب الخمرة والقهوة والتدخين ليخدر آلامه، عبّر عن جنونه بالحبّ شعراً أنشده فأخرسها، لكنها تصنعت اللامبالاة، فمعشوقته في سنّ الزواج وهو المراهق، هذا الحب ومتطلباته كان يربط فؤادين وبناء الزواج الناجح، هو الذي كان وراء بحث أبو شبكة عن العمل، فازداد شرود الطالب العاشق وتمرده حتى يئس منه معلموه فطلّق المدرسة إلى غير رجعة وهو في نهاية الصف الرابع سنة 1922.. كي يجد عملا ينقذ زواجه، فكانت كل محاولاته بلا جدوى. من جملة محاولاته لإيجاد عمل، أنه عندما أنشأ الأديب ثلاث قصائد، وعلق الآمال الكبيرة على ما نشر.. أرسل إليه صاحب البيان يستزيده من تقديم قصائد أخرى، وكل ما جناه من هذا المجهود.. لم يقابل بما يساويه، واكتفى بقبلة طبعتها العشيقة على خدّه.

البحث عن حبّ جديد

إننا نستطيع أن نؤكد بأن ما قام به أبو شبكة من جهد فكري، ومقالات، ونقد أدبي، وصدور دواوينه ومنها القيثارة سنة 1926، نشر مختارات من مقالاته، وما دبجه في الصحافة، وما نشر من مجموعات شعرية وما قدّم إلى المحبوبة من باقات الورد والزهور لم يأت بنتيجة، واضطر أن يبحث عن عمل فحرّر في جريدة الاستقلال ومضى على ذلك العمل وسواه نحو من أربعة أعوام، لم يكن ذا أثر في الوصول إلى مبتغاه.. ولم ينقطع له أمل في البحث فسطر مقالات في السياسة والأدب، وجرّب العمل في الدوائر الحكومية، وكرّس نفسه وثقافته ليجداه مركزاً للعمل في المدارس العامة ولكن بلا طائل .

وقد حاول التعليم في مدارس المقاصد والإخوة المريميين، لكنه لم يستمر فقد أقيل من هذا العمل بعد سنتينن، فقد أقيل من عمله لأنه لم يكن قادراً على التقيد بأوقات التدريس. وهنا كان لا بدّ من القول بأن العلاقة بينه وبين مخطوبته الحبيبة. بدأت تتعثر وتكتنفها المتاعب. وبدأت أمواج الحب التي كانت تعصف بين الطرفين تتراجع من المدّ إلى الجذر. وتطول العلاقة، وتتراجع حينا…

ودخل أبو شبكة في مرحلة البحث عن حبّ جديد بينما الأول لا يزال مستقراً في حناياه، ولكن مع الوساطات التي كان يقوم بها أبو شبكة لتوطيد دواعي المصالحة، فحدّد موعد للزواج. وطرأت أسبابِ التعثر، ولم يقع الزواج إلا في مطلع سنة 1922، وفي بيت العرِيس وكانت ثمرة هذا الزواج الذي لم تحضره أم العريس وأخته، لعدم موافقتهما عليه … طرحاً، وكان هذا الواقع شديداً على الزوج، وتحول قفص الزواج إلى شبه سجن، لم يكن قفصاً مذهباً، إذ لم تكن أسباب الاستقرار متوفرة فيه، وكان أبو شبكة أمام هذا الواقع على علاقة سرية بفتاة أحلام جديدة هي هادية كانت تسعى إلى طلاق أبو شبكة لتتزوج به، فكانت القطيعة هي التي آل الزواج إليه. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى اعتلال صحة أبو شبكة، بسبب ادمانه على التدخين والكحول. ولم يكن ممكنا اصلاح هذه العلاقة، ولا قطعها، وكان أبو شبكة يعمل حثيثاً في الصحافة مكان محرر في صوت الأحرار، ومجلتي الجمهور والمكشوف، وجريدة لسان الحال، واشتدت العلّة على أبي شبكة، وظهر من الفحوصات والتحاليل أنه مصاب بداء الرئة وفقر الدم، وجفاف الكبد، وكانت وفاة الشاعر العظيم والكاتب الشهير في 27 كانون الثاني سنة 1947. ولهذا البحث جزء آخر ندرس فيها آثار أبي شبكة في الشعر والنثر مع خصائصه ومنزلته الأدبية.

جريدة الانوار اللبنانية، السبت 20/1/2018

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *