الثلاثاء 23 أبريل, 2024

وجيه نحلة.. بقلم أحمد بزون

وجيه نحلة

الفنان النجم الذي تكلم قليلا وكان من أغزر الفنانين العرب

ملون بارع بدأ بهموم الناس والحروفية وحركة الحصان

وانتهى بمراقصة اللون والضوء

أحمد بزّون

p24_20170222_pic1رحل الفنان المبدع البارع والصديق وجيه نحلة، الفنـان الـذي يتكلـم قليـلاً ويرسـم كثيـراً.. تخطر له رؤيا فينهض من نومه ليرسمها. البارز المتميز النجم، الحاضر بين أغزر الفنانين العرب إنتاجاً (خمسة آلاف لوحة)، الملون من الدرجة الأولى، الودود الذي بقي حتى آخر حياته يتجول على معارض الكبار والصغار.

قال لي عندما زرته بعد خروجه من عملية جراحية عام 2013، في لقاء نشرت تفاصيله في “السفير الثقافي” في 15 آذار 2013: “بعد هذه الغيبوبة التي عشت إثرها بالصدفة، بدأت أسأل نفسي: ماذا لو حدث أمر سيئ لي؟ ربما كانت اندثرت أعمالي. ماذا أفعل لتبقى أعمالي حاضرة في الذاكرة وفي المتاحف والمعارض؟ فأنا أنتجت ما لا يقل عن خمسة آلاف عمل فني. بعد استفاقتي من الغيبوبة تذكرت أني أخذت جائزة أفضل تصميم العام 1965، عن تصميم في مسابقة تخيلت فيه بيروت في العام 2000 مثل دبي اليوم، وتذكرت شريط حياتي الفنية كلها، وما أنجزته”.

كان وجيه نحلة يهجس بالموت وهو المحب للحياة حتى الرمق الأخير. لكنه كان يرى حياته في فنه، فاللوحة الجديدة هي التي تَعِده بيوم جديد. لم يكن يستكين للمرض فينقطع عن الرسم، إنما كان يقاوم سواد الموت بمزيد من الألوان الجميلة التي عودنا عليها، وبمزيد من الحرص على توضيب أعماله وأرشيفه والأفلام التي أنتجت في فنه.

بغيابه نقص المشهد التشكيلي كثيراً. ألف سلام لجمال روحه، وسوف ننحني حزناً ونبتسم فرحاً كلما شاهدنا ألوانه في لوحة.

هنا نص اللقاء الذي نشر في “السفير الثقافي” في 15 آذار 2013، العدد 12431:

ثمانون ولادته.. كانت مناسبة لتكريمه في قصر الأونيسكو الشهر الماضي، بدعوة من «مركز التراث اللبناني» في الجامعة اللبنانية الأميركية، في ندوة حلّت في مسرح القصر، ومعرض استعادي واسع شغل الصالتين الشرقية والغربية، صدر بعدهما فيلم يغطي هذه التظاهرة، التي اعتبرت محطة أساسية في تظهير صورة فنان، صاحب نتاج فني متنوع ومكثف، وقد جال بفنه على صالات العالم.

وجيه نحلة من الفنانين البارزين في لبنان، يتهمه البعض بأنه فنان ديكور، وأنه مزين ومزخرف ومشدود بفنه إلى الثروة، وهو يعترف بأنه أنجز بعض الأعمال ليعيش. في حين يعتبره بعض آخر من أمهر الفنانين العرب، وصاحب شخصية فنية ميّزته عن الجميع، وأنه من المؤسسين للوحة الحروفية العربية، بل واحد من صفوة المؤسسين، وقد أعطى للحروفية حركة دينامية ندرت عند الآخرين، وأنه ملوّن من الدرجة الأولى، وقد عرف كيف يراقص الألوان بريشته. وهو يرفق مع كاتالوغ معرضه الآنف الذكر شهادة من الناقد الفرنسي المعروف أندريه بارينو وثلاث شهادات من كل من جوزيف أبو رزق وزينات بيطار والشاعر (والرسام) أدونيس.

وإذا اختلف في فنه النقاد، وهو خلاف مشروع، فقد تباينت آراء الفنانين فيه، فهو محبوب من فئة، وتشوش عليه فئة أخرى. شطارته ضده، وقدرته على نسج علاقات بأولي الأمر والزعماء وكبار القوم تضعه في مواجهة من يقصّرون في هذا المجال.

المهم أن الأعمال التي عرضها، في قصر الأونيسكو يعود بعضها إلى أكثر من ستين سنة، فلوحات البدايات مؤرخة بين 1948 و1952، وهي طبعاً المرحلة التي سبقت الاحتراف، تلتها المرحلة الانطباعية، وقد شهدنا كيف يتعامل مع لوحة المنظر الطبيعي، مهتماً منذ ذلك الوقت بتفاعل حركة الألوان وتداخلها، متماهياً مع حركة الطبيعة. وإذا انتقلنا إلى لوحاته الجديدة التي يرشح من تجريدها المنظر الطبيعي، نفهم ذلك التواصل في التجربة من البدايات حتى اليوم، وإن كان اتجاه الفنان نحو التجريد جعل لوحته تشهد تطورات مختلفة. منذ البدايات شهدت لوحة نحلة تلك الفلتات الحرة، أي كانت مساحات التجريد بارزة. إلا أن الحرية عنده تنبع من أمرين اثنين: من اطلاعه في مراحل لاحقة على جديد العالم من جهة، ومن ابتعاده عن الأكاديمية واتباع مزاجيته ونزواته التشكيلية من جهة أخرى. هذا الشرود أو الانزياح في لوحته جعل حروفيته مختلفة، ومشغولة بأسلوب خاص بعيداً عن تجارب الآخرين، بل هو كثيراً ما اعتبر نفسه أول من بدأ الحروفية العربية، لكن الحقيقة أن بعض التجارب سبقته، مثل العراقيَّين مديحة عمر وجميل حمودي، وكذلك اللبنانية سلوى روضة شقير، وهؤلاء جميعاً بدأوا حروفيتهم ما بين 1946 و1949، في حين بدأ نحلة في 1954 أول حروفية له. غير أن الادعاء هذا يؤكد استقلاله عن تجارب الآخرين، وربما عدم اطلاعه على تجاربهم.

الهوية

حتى أن نحلة عندما دخل مضمار الخط العربي في زخرفاته أتى خطه بعيداً عن القواعد الخطية، ما يؤكد رغبته الدائمة في الابتعاد عن الآخرين في تجاربه الفنية، وبحثه عن بصمته الخاصة. وإذا كان الفنان قد كثف حروفيته في مرحلة الخمسينيات، وصولاً إلى العام 1962، إلا أنه بقي يطعّم لوحته بالحروف العربية، مثلما كان من قبل يطعم حروفيته بالتشخيص. ذلك أنه يبحث دائماً عن مفردات ذات علاقة بالهوية العربية، تلك الهوية التي بقي مصراً على وجودها حتى في لوحات التجريد، أو ما يسميه هو باللوحات «النورانية». فمن الحرف إلى الزخرفة الشرقية، إلى استخدام الحصان العربي في عدد كبير من أعماله، إلى استخدام شكل العمارة الإسلامية والشرقية، إلى استخدام اسم الجلالة في منحوتاته، فهو يقول: «كنت في المملكة العربية السعودية، وفكرت في منحوتات توضع في أماكن عامة، والتشخيص محرم عندهم، ففكرت في استخدام اسم الجلالة (الله) في منحوتات شكلت منها الكثير، وقد صممت منحوتة لجامعة الملك عبد العزيز في الرياض، نفذت في إيطاليا، وبلغ وزنها خمسين طناً. نفذت منحوتات أخرى مثل منحوتة لنادي الطيران السعودي، ومنحوتة «الأرز» في ساحة لبنان في أبو ظبي، وعدد من المنحوتات الأخرى في السعودية ودول خليجية أخرى ولبنان.

أتى نحلة الثمانيني إلى معرضه بعد غيبوبة وعملية جراحية وإقامة في المستشفى طالت لثلاثة شهور. يقول: «بعد هذه الغيبوبة التي عشت إثرها بالصدفة، بدأت أسأل نفسي: ماذا لو حدث أمر سيئ لي؟ ربما كانت اندثرت أعمالي. ماذا أفعل لتبقى أعمالي حاضرة في الذاكرة وفي المتاحف والمعارض؟ فأنا أنتجت ما لا يقل عن خمسة آلاف عمل فني. بعد استفاقتي من الغيبوبة تذكرت أني أخذت جائزة أفضل تصميم العام 1965، عن تصميم في مسابقة يتخيل بيروت في العام 2000. حينها تخيلت بيروت مثل دبي اليوم، وتذكرت شريط حياتي الفنية كلها، وما أنجزته». هكذا أتى معرضه الاستعادي مناسبة ليتذكر هو نفسه أولاً، ويقف أمام المرآة، ويرى ذلك المشهد الطويل. يقول نحلة: «يأتي هذا المعرض بعد معرض استعادي أقيم من عشر سنوات بالضبط في قصر الأونيسكو أيضاً. فأنا لا أقيم معارض في بيروت إلا نادراً، وكان من الضروري أن أضع اللبنانيين أمام ما أنجزته. البعض لا يعرفون عني الكثير، ويحكمون على القليل الذي يعرفونه عني، أو يسمعون انطباعات من الآخرين، سلباً أو إيجاباً، فكان ضرورياً أن أضع المشاهد اللبناني ليس أمام آخر ما أنتجتُه من أعمال، إنما أمام ما أنتجتُه في الخارج أيضاً، وقد وضعت في المعرض صوراً لما أنجزتُه من أعمال ضخمة، مثل الجدارية الحروفية التي يبلغ عرضها 22 متراً وموجودة في مطار الملك خالد، وحاولت أن تتمثل كل مراحلي الفنية في المعرض، فعرضت لوحتين على الأقل من كل مرحلة. أردت أن أختصر كل تجربتي في هذا المعرض، فعلقت مئة لوحة مختلفة الأحجام، وصور منحوتات وأنصابا وجداريات موجودة في قصور ومطارات في العالم العربي. كما عرضت تصاميم لأعمال فرقة كركلا، وقد رسمت لوحات من وحي راقصات الفرقة، وعرضت فيلماً عن أعمالي أخرجه الأميركي آدم سوتش العام 1978، مدته 14 دقيقة، ولوحات وجوه لأعلام مختلفين أمثال سعيد عقل ووليد غلمية ورفيق علي أحمد ولارا مخول، كما عرضت توثيقاً للجوائز والأوسمة والشهادات. وربما للمرة الأولى أعرض صور بعض التراثيات الفينيقية والبيزنطية والعربية».

لوحة كل يوم

إذاً، عرض نحلة مئة عمل من أصل خمسة آلاف. فأين أعماله؟ وأين يعرض ما دام لا يهتم بالعرض في لبنان كثيراً إلا موسمياً وبمعارض استعادية تعريفية أكثر منها تجارية؟ طبعاً هو من الذين يبيعون كثيراً، فبالإضافة إلى سوق السعودية والخليج وعدد من المقتنين، فقد توزعت لوحاته في أقطار عربية وأوروبية، وقد وصلت دولاً أميركية وأسيوية، فهو يقول: «عندي في المحترف حوالى 400 لوحة، و150 لوحة، موزعة كودائع، على أربع غاليريات في الولايات المتحدة الأميركية، وثلاث غاليريات فرنسية، وواحدة في جدة وأخرى في جنيف».

وماذا يعمل وجيه نحلة بعد غيبوبته، التي لم يعد غيره منها، كما قال؟ هو، بالإضافة إلى أنه يرسم لوحة كل يوم، يهتم بشكل واضح في أرشيفه، وقد كلف فريق عمل اشتغلوا ستة شهور في توضيب الصور والقصاصات والمقالات والحوارات وكل ما يتعلق بإنجازاته، ولما تزل الورشة مفتوحة في محترفه، إلى أن يكتمل العمل في ستة مجلدات.

وجيه نحلة ليس من الفنانين الذين يجيدون الكلام على أعمالهم، وليس من الفنانين النقاد، الذين يعرفون كيف يقدمون أنفسهم ويضيئون على الزوايا المعتمة. ما إن تبدأ سؤاله عن أعماله حتى يقودك بيده لترى بنفسك، وتقتصر تعليقاته على كلام قليل، ليتركك مع فنه الكثير. فهو ينجز أعمالاً أكثر بكثير مما يتحدث عنها، ويضعك أمام عمر فني في دقائق معدودة لا يستطيع الكلام اختصارها، معتمداً على أن لغة البصر أقوى وأسرع من لغة اللسان. أحاول تحريضه قليلاً عله يفصح عن أسرار لوحته، فيرد باختصار: «إنه الوحي»، فأضحك، ثم يقول: «النور الذي تراه في اللوحة يسقط عليّ من فوق»، مشيراً إلى السماء، فأستغرب استخدامه تعبير «النورانية»، ولا أستغرب أن يشعر فنان بعلاقته بالوحي أو النبوة أو أي هالة قدسية. هو طموح «مشروع»، يشعر به مبدعون، ويصدقه قراء ومشاهدون، لكنني أبحث عن آلية الإبداع والعبقرية في مكان آخر! وأتابع معه غير مصدق كل تلك التخيلات الطموحة، ثم يتابع: «أحياناً أذهب لأنام، فيأتيني وحي أو رؤيا فأنهض لأرسم ما رأيت».

ما يطلق عليه «نورانية» يتمثل بتلك المساحات المضيئة في اللوحة، أو بالتآليف التي يدخل الضوء جزءاً أساسياً فيها، يستعيد بها حركة الحصان من لوحاته القديمة، أو حركة رقص المرأة، أو حركة الطبيعة أيضاً، وقد يختفي الحصان وتختفي الراقصة وتختفي الطبيعة وتبقى الحركة، حركة الألوان أو لعبة الضوء. ولا شك في أن نحلة من الملونين البارعين، يعرف كيف يهندس بناء اللون والحركة، فيصل بهندسته إلى الأبعاد الثلاثة أحياناً. لاعب حذق يأخذ ألوانه دائماً إلى فرح، والحركة إلى جموح يصل حافة الخطر، والمادة اللونية إلى موج يتهادى مرة ويتضارب ويتكسر عند حواف كأنها منحوتة بتلقائية أو بلا حساب. هو يذهب دائماً إلى سحر العين، إلى إغرائها وجذبها، بل يتعامل مع أي عين، فلوحاته تخاطب الجميع، وقد ابتعد عن التعقيد، وذهب في الوقت نفسه إلى صيغ لونية تخاطب البصر والمشاعر، وهو لا شك بقي في كل ما قدم بعيداً عن اللوحة التي تحتاج إلى تفكير عميق أو تحليل صعب، ونأى بأعماله عن الخطاب السياسي أو التحريضي. ربما في مراحله الأولى صوّر حالات اجتماعية وإنسانية، الحزن والفقر والألم ومتاعب الحياة، إلا أنه سرعان ما ابتعد عن كل هذه الهموم، ليتحول إلى اللوحة الأنيقة الصالونية، التي تُدخل المتعة، والمتعة فقط، إلى عين مشاهديها. كل همه الجمال، خصوصاً جمال المرأة والطبيعة.

في تجريده ينطلق نحلة من الضربات الحرة التجريدية إلى الشكل، غير أن الشكل في الذاكرة، في عمق اللوحة، في تصويب التجريدات. ولعل أكثر ما يشدّ في اللوحات التي نفذها مؤخراً، تلك اللمسات البسيطة التي تشكل مفتاحاً لمعرفة الموضوع، فهو يوحي بوجود شخص أو شجرة، فيكون هذا الإيحاء هو الضوء الذي نسلطه على تجريدات اللوحة لنتلمس حضور مشهد طبيعي. لعبة ذكية تنقل اللوحة من أسلوب إلى آخر، بل من مجرد حلم لوني إلى حلم يستفيق على واقع، من مجرد لعبة جمالية إلى حضور موضوعي. كأن هذا المفتاح هو السر الذي يسلمنا الفنان إياه لنتعامل مع اللوحة بقراءة جديدة.

مفتاح الواقع

قال نحلة: «لا أرسم من دون موسيقى»، لكن حركة ألوانه هي الأخرى مسكونة بالموسيقى، التي تتشكل، بدورها، إيقاعات تتجه إلى الغنائية الرومنسية أكثر من أي اتجاه آخر، وتتشكل كأناشيد لونية. تتبدل إيقاعاتها وتنحرف نحو خيارات منفتحة على آفاق تشكيلية واسعة.

أحمد بزون

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *