السبت 20 أبريل, 2024

تقديم: حرب تموز مغامرة أم مؤامرة

 

تقــديـم*

حرب تموز/ يوليو 2006. مغامرة أم مؤامرة؟
د_-علي-زيتون-2-300x200د. علي مهدي زيتون

 صار من نافل القول أن نصف الإعلام، في زماننا هذا، بأنّه السلطة المتحكّمة من خلال ما تمارسه من ضخّ للمعلومات في أذهان الناس. والشعارات التي ترفعها هذه الوسيلة الإعلاميّة أو تلك من مثل: “الحقيقة كلّ الحقيقة للجماهير”، أو “الواقع كما هو” هي شعارات قابلة للمناقشة. فلو فرضنا أن الوسيلة الإعلاميّة التي ترفع مثل هذه الشعارات هي صادقة في ما طرحته على نفسها، فهل تستطيع أن تقدّم، فعليّاً الحقيقة كلّ الحقيقة للمتلقين، أو أن تنقل إليهم الواقع كما هو؟ وهل الواقع أحاديّ البعد حتى يتمكّن من التقاطه أيّ ناظر إليه؟ وهل الناظرون إلى هذا الواقع يمتلكون رؤية موحّدة إلى العالم؟

الرؤية كالبصمة لا تساويها رؤية أخرى ولا تماثلها. والواقع إلى ذلك، متعدّد الأبعاد إلى حدٍّ غير قابل للحصر، ولا يمكن اختصار حدث تموز العام 2006 ببعد واحد، وكذلك أيّ حدث آخر. فهل يعني ذلك إنّنا واقعون في قبضة التفكيكيّة، شئنا أم أبينا، حيث الحقيقة عندها وجهة نظر؟ ووجهة نظر القوي؟ صحيح أنّ الواقع متعدّد الأبعاد، ولكنْ أبعاده لا تكون أبعاداً منقسمة بين قطبين ضدّين.

وإذا حاولت وسيلتان إعلاميتان إبراز مثل هذا التقاطب الضدّيّ، فإن أحداهما على الأقل ستكون وسيلة مغرضة خاضعة لمآرب لا علاقة لها بالحقيقة. أن تعدّدية الواقع لا تبرح الانسجام داخل عنوان واحد كبير. والمعارك التي خاضها (حزب الله) في مواجهة إسرائيل منذ العام 1993 وحتى العام 2006 واقعة، بالنسبة إلى إسرائيل على الأقلّ، تحت عنوان واحد هو (القضاء على حزب الله). أنّ تعدّد أبعاد واقعة ما مثيرٌ خلافات جزئية في وجهات النظر، ولا يمكنه أن يصل إلى درجة الضدّية.

كلّ ذلك إذا افترضنا أن الوسيلة الإعلاميّة وسيلة صادقة من حيث النيّة والقصد، فكيف بنا إذا وجدنا أنفسنا أمام وسائل إعلاميّة تنتمي إلى مصالح متناقضة؟ يصبح الإعلام ضخاً لمعلومات معدّلة عن الواقع ومفارقةٌ حقائقَه، قصد امتلاك الرأي العام وتوجيهه الوجهة التي تقتضيها المصالح الكامنة خلف هذه الوسيلة.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن الدكتور عبد الرحيم شكير قد أدخل نفسه مدخلاً ضيّقاً وجشّم نفسه مركبا وعراً. وأن يحاول باحث أن يكلّف نفسه عبء دراسة عنوانها “حرب تموز/ يوليو 2006. مغامرة أم مؤامرة؟ محاولة تحليل الخطاب العربي، السمعي ـ البصري خلال حرب تموز”، لا يدرجه في عداد الباحثين المغامرين كما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى؛ لأن عمله بحث أكاديميّ خاضع لشروط الحياديّة والعلميّة بشكلٍ أساسيّ . يدرجه في عداد الباحثين عن الحقيقة في أصعب الأوضاع التي تعيشها الحقيقة. انقسام يخترق الساحات الثلاث: المحليّة والإقليميّة والعالميّة، حول حدث تموز العام 2006، تبعه انقسام إعلامي حول الحدث نفسه. وهذا الانقسام لم يكن انقساماً داخل الدائرة نفسها. بلغ حدّ التناقض والضديّة.

ومع ذلك، فإن الدكتور عبد الرحيم، ومنذ العنوان الأساسيّ استطاع أن يضع الأصبع حيث يجب أن يوضع. وسؤاله: “مغامرة أم مؤامرة؟” واقف بين خطابين إعلاميين، يصف أحدهما الحدث بالمغامرة، ويراه الثاني مؤامرة على المقاومة. وهو في صوغه هذا السؤال قد وضع نفسه في دائرة الحياديّة التي تعدّ شعار أي باحث يستظلّ العلميّة، ولا يتوخى سوى الحقيقة، والحقيقة وحدها. وهذه الحياديّة العلميّة دفعته، ومنذ العنوان أيضاً إلى أن لا يرفع لبحثه شعاراتٍ قائمةً على الاعتداد بالنفس. اختار هذا الباحث، مع تسلّحه بكلّ الأدوات التي يتطلبها بحث علميّ أكاديميّ، الحيطة والحذر. وصف ما سيقوم به من تحليل للخطاب الإعلامي العربي خلال حرب تموز بأنه (محاولة). وكلمة (محاولة) تضمر النجاح بقدر ما تضمر الفشل. وهي علامة من علامات تواضع الباحث. ذلك التواضع الذي يعدّ السّمة الكبرى من بين السمات الأخلاقية التي يجب أن يتمتع بها أيّ باحث جادّ.

وكما تجشّم هذا الباحث مركباً صعباً في ما اختاره من عنوان، فأنه قد زاد تلك الصعوبة صعوبة إضافية حين اختار الخطاب السمعي ـ البصري مادّة لدراسته هذه. وهو لو اختار خطاباً في جريدة أو مجلّة لهوّن على نفسه الكثير؛ لأن الخطاب المكتوب مادّة يسهل التعامل معها إذا قسناها إلى وعورة التعامل مع المادة السمعيّة ـ البصريّة. يجد الباحث نفسه، مع الخطاب السمعي ـ البصري عائماً في بحرٍ محيط. فالصورة نفسها في هذه المحطة التلفزيونية لا تشبه نفسها في محطة أخرى، فأيّتهما يصدّق؟ وأيّ السبل يمكنها أن توصله إلى الحقيقة؟

ولعلّه اختار هذه المادة، لأنه أراد الإمساك بالكيفيّة التي تحاول الوسائل الإعلامية من خلالها تشكيل الرأي العام. هذه الكيفيّة التي تمكّنه من معرفة التوحّش الذي تمارسه المصالح، والمآل الذي صار إليه الرأي العام نتيجة ذلك. إنّها تمكّنه من معرفة الحصاد الإنساني الذي وصلت إليه المجتمعات البشرية نتيجة صراع وسائل الإعلام المتناحرة فوق ساحتها. فالبعد الإنساني هو الذي حدا بعبد الرحيم ليتجشّم هذا المركب الوعر. فالهمّ الذي يحمله يجعل من المتاعب ضرورة لا بد منها، في أثناء العبور إلى الحقيقة.

وما يطمئن القارئ على حسن مسيرة هذا الباحث أنه قد تسلّح بمنهجين علميين لا يمكن أي باحث في مادّة كالمادّة التي اختارها عبد الرحيم أن يتجاوز أحدهما. من دون أن يقع في السطحيّة.

فالسيمائية هي المنهج الأرقى في قراءة الصورة (الأيقونة)، الصورة التي نقلتها وسائل الإعلام من حرب تموز، خصوصاً إذا اطمأنّ مستخدم هذا المنهج إلى نوعين من القيم: القيم الأخلاقيّة والقيم الإنسانيّة، فهذان النوعان هما اللذان يجعلان منه باحثاً علميّا وحياديّاً. وإذا أَدْخَلنا إيكو في روايته “اسم الوردة” مدخل العلامات المضلّلة داخل المنهج السيمائي، فلأنه حاول الإفادة من المنهج التفكيكي. وهو مع استعانته بالتفكيكيّة، فأنّه كان في نهاية روايته حداثيّاً مستنداً إلى العقل العلمي. ويعني ذلك أن ايكو أراد أن يغذي هذا المنهج بالبعد الشكي الذي يتكفّل بتخليص أيّ حدث مقروء من علاماته المضلّلة التي قد تكون مقصودة من مقدّم ذلك الحدث لغرض في نفسه. والتضليل هنا مقصود ولا براءة أو حسن نيّة في تشكيله. والمنهج الشكّي في توغله داخل المنهج السيمائي يجعل منه منهجاً قابضاً على جمر الحقيقة بكلّ حياديّة وعلميّة. وعبد الرحيم كان سيمائياً أفاد من الشكّ في تخليص الصورة المرئيّة التي درسها ممّا أُدخل فيها من إشارات التضليل.

ولم يستخدم هذا الباحث السيمائية وحدها، لجأ إلى منهج “تحليل الخطاب” خصوصاً في ما قرأه من كلام قدّمته النشرات الإخبارية، أو البرامج التحليليّة. وهذا المنهج حين يبحث عن حضور كلّ من المتكلّم والمتلّقي، وحضور كلّ من الزمان والمكان في الخطاب إنما يحلّل المقوّمات الأساسية التي يقوم عليها الخطاب. وتحليلها كفيل بوضع الأصبع على الحقيقة المتخفّية وراء السطور. وحين طرح الباحث على نفسه مهمّة استخلاص المسكوت عنه في ذلك الخطاب، إنما كان على وعي كبير بالمنهج الذي اتبعه، وبإمكاناته الكشفيّة، وعلى يقين بأن المهمّ في أيّة دراسة هو وضع الأصبع على المسكوت عنه، لأنّه الجوهر الذي يعطي كلّ ما عداه حقيقته الساطعة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

ألقي التقديم في الاونيسكو بمناسبة توقيع كتاب برعاية عميد الآداب الدكتور محمد أبو علي  7/1/ 2017

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *