الثلاثاء 19 مارس, 2024

الغِنائيَّةُ وَالشِّعريَّةُ عَبْرَ العُصُورِ

الغِنائيَّةُ وَالشِّعريَّةُ عَبْرَ العُصُورِ في قصيدةِ النَّثر المصريَّة

 شريف رزق

13095961_1154687601238756_5215717356126100173_n

إنَّ محورَ (الغنائيَّةِ) منْ أكثرِ محاورِ الشِّعريَّةِ حضُورًا، في نظريَّةِ الشِّعرِ، في شَتَّى العُصُورِ، وَفي شَتَّى اللغَاتِ؛ نَظَرًا لأنَّ الطَّابعَ الغِنَائيَّ هُوَ السِّمَةُ الرَّئيسَةُ في مختلَفِ الشِّعريَّاتِ؛ ففي شَتَّى أنْوَاعِ القَصِيْدِ يُلاحَظُ حُضُورُ الأنَا الشَّاعرَةُ، باعتبارِهَا مَرْكَزَ العَالمِ، وَمَصْدَرَ الفَيْضِ الشِّعريِّ، وَيُلاحَظُ أنَّ الطَّابَعَ الغِنَائيَّ قَادَ القَصِيدَ إلى ضروبٍ منْ الغِنَاءِ، منذُ فَجْرِ التَّاريخِ الشِّعريِّ(1)، وَتقودُنَا عِلاقَةُ الغناءِ وَالغنائيَّةِ بالشِّعرِ، في مَشْهَدِ الأدَبِ العَرَبيِّ، إلى الوصُولِ إلى أنَّ “شِعْرَنَا العَرَبيَّ [قَدْ] نَشَأَ نَشْأةً غنائيَّةً؛ كَغيرِهِ مِنْ أنْوَاعِ الشِّعرِ الأخْرَى؛ فمِنْ المعْرُوفِ أنَّ الموسِيقَى كانَتْ ترتبِطُ بالشِّعرِ مُنذُ نَشْأتِهِ، نَرَى ذَلكَ عِنْدَ اليُونانِ القُدمَاءِ؛ فهوميروسُ كانَ يُغنِّي شِعْرَهُ على أدَاةٍ مُوسِيقِيَّةٍ خَاصَّةٍ، وَنَرَى ذَلكَ عِنْدَ الغَربيِّينَ الحدِيثينَ؛ فَقَدْ كانَتْ تُوجَدُ في العُصورِ الوسْطَى جماعَاتٌ تُؤلِّفُ الشِّعرَ وَتُغنِّيهِ، وَهِيَ المعروفَةُ باسْمِ تروبادور  troubadour، وَقَدْ كَانَ عندَنَا في مِصْرَ ، إلى عَهْدٍ قريْبٍ ، جماعَاتُ (الأُدَبَاتيَّة)، وَهِيَ جماعَاتٌ تُؤلِّفُ الشِّعرَ وَتُنْشِدُهُ على بعضِ الآلاتِ الموسِيقيَّةِ، وَلايزالُ (الشَّاعرُ) معروفًا في الرِّيفِ، وَهُوَ يُلقِي أشْعَارَ أبي زيدٍ الهِلاليِّ وَعنترَةَ وغيرِهِمَا، مُضِيفًا إلى إنشَادِهِ الضَّربَ على أداتِهِ الموسِيقيَّةِ؛ المعروفَةِ باسْمِ (الرَّبابَةِ)”(2)، وَكَمَا كَانَ هوميروسُ يُغنِّي أشْعَارَهُ على آلةٍ موسيقيَّةٍ خَاصَّةٍ، بينَ اليونانيِّينَ القُدمَاءِ، كَانَ “المهلهِلُ بنُ ربيعَةَ؛ أقدَمُ شُعَرَاءِ العَرَبِ، وَأوَّلُ مَنْ قَصَّدَ القَصَائدَ .. يُغنِّي شِعْرَهُ .. أمَّا امرؤُ القَيْسِ، فقدْ ذَكَرَ إعْجَابَ بعضِ النِّسوَةِ بصَوْتِهِ .. وَكَانَ علقَمَةُ بنُ عبدَةِ الفَحْلُ، يُغنِّي ملوكَ الغَسَاسِنَةِ أشْعَارَهُ”(3)، وَكَذلكَ كَانَ الأعْشَى؛ صَنَّاجَةُ العَرَبِ، وَيَرْبِطُ حَسَّان بنُ ثابتٍ الشِّعرَ بالغِنَاءِ رَبْطًا وَثيقًا بقولِهِ:

تَغنََّ بالشِّعرِ إمََّا كنتَ قائلـَهُ     إنََّ الغناءَ لهذا الشِّعرِ مِضْمَارُ

وَعلى الرَّغمِ منْ تعدُّدِ خِطَاباتِ الشِّعرِ عَبْرَ العصورِ، وَتحوُّلاتِهَا العَمِيقَةِ الجمَّةِ، فإنَّنَا لا نَسْتطِيعُ أنْ نغفِلَ البُعْدَ الغِنَائيَّ، لشُعرَاء مِثْل: المتنبِّي، وَأبي فِرَاس الحَمَدَاني، وَابن زَيدون، وَجُبرَان خَليْل جُبْرَان، وَمحمود حَسَن إسماعيل، وَمحمَّد الماغوط، ومحمَّد عفيفي مطر، وودِيع سَعادَة، وَغيرهم ممنْ تتبدَّى في خِطَاباتهمْ المختلِفَةِ، أصْوَاتٌ مختلِفَةٌ، تُصَوِّرُ شَخصِيَّةَ الشَّاعرِ وَأهْوَاءَهُ، وَمِيولَهُ، وَتُمَثِّلُ حَيَاةَ الفَرْدِ تمثِيلاً قويًّا.”(4)

وَإذَا كَانَ أرسطو قدْ قسَّمَ الشِّعرَ- اسْتِنَادًا إلى اسْتِقرَائِهِ الشِّعرَ المتَاحَ أمَامَهُ- وَهِيَ تقسِيْمَاتٌ سَتَعِيْشُ طَويلاً بَعْدَهُ- إلى: غِنَائيٍّ، وَمَلْحَمِيٍّ، وَمَسْرَحِيٍّ؛ فإنَّنَا نُلاحِظُ أنَّ الملحَمِيَّ وَالمسْرَحِيَّ لم يخلُ كِلاهُمَا منْ الغنائيِّ، وَمَهْمَا تعدَّدَتْ الأصْوَاتُ، في القَصِيدِ،  فإنَّ الغِنَائيَّةَ سَتُوجَدُ، حتَّى وَإنْ وُجِدَتْ مُتعدِّدةً، وَمختلِفَةً، وَقدْ بَدَأتْ قضِيَّةُ الغِنَائيَّةُ، في الظّهورِ، مَعَ صعودِ المدِّ الرُّومَانسيِّ، في القَرْنِ الثَّامِن عَشَرَ، وَإعْلاءِ حضورِ الذَّاتِ الشَّاعرَةِ، وَالتَّعبيرِ عنْ الوجْدَانِ، وَالغِنائيَّةُ بهذا الشَّكلِ تتخطَّى حدودَ الشِّعرِ إلى آفاقِ الشِّعريَّةِ؛ فتتبدَّى في رِوَاياتٍ غِنَائيَّةٍ، وَقصٍّ غِنائيٍّ، وَمَسْرَحيَّاتٍ غِنائيَّةٍ: منودراما، وَتعكِسُ غِنَائيَّةُ الخِطَابِ الشِّعريِّ، في حَالاتٍ كثيرَةٍ، رَفْضًا لآليَّاتِ القَمْعِ الخارجِيَّةِ المضروبَةِ حَوْلَ الذَّاتِ الإنسَانيَّةِ، وَتجسَّدَ هَذَا الرَّفضُ بِالتَّشديدِ على مَرْكزيَّةِ الذَّاتِ.

وَتَتَمَثَّلُ الخصِيصَةُ الأسَاسِيَّةُ لِلْغِنائيَّةِ الجديدَةِ، في شَخْصَنَةِ النَّبرَةِ الشِّعريَّةِ، وَبَاطِنيَّتِهَا العَمِيقَةِ، وَكثَافَةِ صَوْتِهَا؛ فهِيَ نَبْرَةٌ لا تَنْبَعُ مِنْ اللسَانِ، وَإنَّمَا تَصْدُرُ منْ أغْوَارِ القَاعِ، خَاليَةً منْ وَاقِعِ الإنشَاديَّةِ الخارجيَّةِ الجهيرَةِ، وَمِنْ خَطَابيَّةٍ؛ ظَلَّتْ عِبْئًا على الشِّعريَّةِ، وَتختلِفُ هَذِهِ النَّبرَةُ عَنْ فِكرَةِ الهمْسِ؛ الَّتي دَعَا إليْهَا محمَّد مندور، في أنَّ مندور كانَ يُرِيدُ التَّخفُّفَ مِنْ النَّبرَةِ (الخارجيَّةِ) الجهيرَةِ، فيْمَا نبرَةُ الغِنائيَّةِ الجديدَةِ، في قَصِيدَةِ النَّثرِ، هِيَ بَاطِنيَّةٌ، دَاخِليَّةٌ، نَبْرَةُ الصَّوتِ الدَّاخليِّ، في إيقاعيَّتِهِ الدَّاخليَّةِ، نَبْرَةٌ يتغيَّبُ الشَّاعرُ فيْهَا، وَيَتَوَحَّدُ بهَا.

تَجَليَاتُ الغنَائيَّةِ الجَديدَةِ، في قَصِيدَةِ النَّثرِ المِصْريَّةِ

تنوَّعَتْ أشكالُ الغِنائيَّةِ الجديدَةِ، في قَصِيدَةِ النَّثرِ المصْريَّةِ، وَإنْ اتَّخذَتْ أرْبَعَةَ مَسَارَاتٍ أسَاسيَّةٍ، تَتَقَاطَعُ أحْيَانًا، وَتَتَوَازَى أحْيَانًا، في خَرَائِطِ الأعْمَاقِ، وَتَتَمَثَّلُ في: الغِنائيَّةِ الاسْتبطانيَّةِ- الغِنائيَّةِ الاعْترَافيَّةِ- الغِنَائيَّةِ الإيروتيكيَّةِ- الغِنائيَّةِ الدِّرامِيَّةِ.

الغِنَائيَّةُ الاسْتبطانيَّةُ

وَهِيَ غِنائيَّةٌ تَسْتَقْصِي أغْوَارَ الذَّاتِ، وَتَتَوَحَّدُ بصَوْتِهَا المتدفِّقِ في الأعْمَاقِ، في نَبْرَةٍ باطِنيَّةٍ، تُؤسِّسُ كتابَةَ الأعْمَاقِ، في خِطابٍ يكونُ فيْهِ اسْتقبَالُ الصَّوتِ مُتَجَاوزًا بثَّهُ الخَارجِيَّ، وَمنْ هُنَا يختلِفُ هذَا الخِطَابُ عنْ خِطَابِ الخطابيَّةِ المنبريَّةِ؛ الَّذي يلْعَبُ فيْهِ الصَّوتُ (الخَارجِيُّ) دَورًا مَرْكزيًّا، وَمِنْهَا قَوْلً سَامي سَعد (1953- )، في مرثيَّتِهِ: “ياليْتَ أنَّكِ”(5):

              1 –

“لماذَا لا تكذبينَ منْ أجْلِي؟

 كذْبَةً وَاحِدَةً ، وَصَغِيرَةً

 قُولي أنَّكِ مَيِّتَةٌ، وَلنْ تعودِي

 قُولي، وَأنَا لنْ أصَدِّقَ.

        2 –

البَيْتُ الَّذي يخلو منْ سَاكِنيْهِ

هُوَ بَيْتٌ خَرِبٌ،

هَا أنْتِ لا تسْكُنينَ في البَيْتِ،

أنَا الخرَابُ المأهُول.

       5 –

بينَ ذِراعيَّ حَمَلتُكِ

أوْصَدْتُ عليْكِ بَابَ القَبْرِ،

وَانْطَلَقْتُ كالمسْعُورِ في الطُّرقَاتِ

أبحثُ عَنْكِ.

     11 –

أنْتِ الرَّاقِدَةُ جِوَارَ أبي

بإمْكانِكِ أنْ تُخْبريهِ

أنَّ الأولادَ بخيرٍ

وَأنَّني أيضًا صِرْتُ شَيْخًا.

      25 –

تعالي الليْلةَ

                 كُلُّ شروطِكِ مُجَابَةٌ،

لقدْ دَفَنْتُ الحيَاةَ بأسْرِهَا

ادْفِني مَوْتَكِ، وَتَعَالي.

     37 –

هَذِه ِحَقيبَةُ يدِكِ

كيْسُ نقودِكِ الصَّغيرُ

حَتَّى حِذاؤك لم تأخُذيْهِ

كأنَّكِ لنْ تعودِي أبدًا!.

     78 –

أنْقَذَني وُجودُكِ منْ اليَأسِ

تمامًا كَمَا أنْقَذَني

غِيَابُكِ منْ الأملِ

مَا الَّذي يُنقِذُني الآنَ منْ الحيَاةِ؟”

الغِنَائيَّةُ الاعْتِرَافيَّةُ

وَهِيَ غِنائيَّةٌ تَكْشِفُ إقرَارَ الذَّاتِ الإنسَانيَّةِ بلحَظَاتِ ضَعْفِهَا، وَهَشَاشَتِهَا، وَخَبِيْئتِهَا الكَامِنَةِ، وَعَدَم تخلِّيهَا عنْ هذِهِ اللحَظَاتِ الإنسَانيَّةِ الحقيقيَّةِ؛ الَّتي وَضَعَتْ سلطَاتُ المجتمَعِ وَآليَّاتُهُ القُيودَ وَالأغْلالَ حَوْلهَا؛ غَيْرَ أنَّ هذِهِ الغِنائيَّةَ، في تَدَفُّقِهَا الدَّاخِليِّ الحرِّ، تكشِفُ مَنَاطِقَ إنسَانيَّة مُهِمَّة، وَمُغَيَّبَة، تَجَاوَزَتْ آليَّاتِ القَمْعِ، وَمِنْهَا قَوْلُ أسَامة الدَّناصُوري (1960- 2007):

“سَامحيني يا صَدِيقتي

لأنِّي طِوَالَ حَدِيثِنَا

وَكُلَّمَا طَرَفَتْ عَيْنُكِ

كُنْتُ أخْتلِسُ نَظْرَةً سَريعَةً إلى جُزْءٍ مِنْكِ:

مَنْبَتِ الشَّعرِ المَائِلِ قليْلاً

إلى أعْلَى يَمِيْنِ الجَبْهَةِ.

إثْرَ جُرْحٍ قَديْمٍ في الخَدِّ.

سيولَةِ الكَتِفِ العَارِي.

وَحِيْنَ ذَهَبْتِ إلى دَوْرَةِ المِيَاهِ

كُنْتُ أبْكِي، وَأنَا أرْى جَسَدَكِ الصَّغيرَ

يَمْرُقُ منْ بَيْنِ المَوَائِدِ.

هَلْ يَجِبُ أنْ أخْبِرَكِ

أنَّي لمْ أتعمَّدْ لمْسَ ذِرَاعِكِ وَأنَا أشْعِلُ لكِ السِّيجَارَةَ ؟

لكِنِّي أقولُ لكِ :

     إنَّ هذِهِ الهَدِيَّةَ الثَّمينَةَ

     جَعَلتْ بقيَّةَ أعْضَائِي تبتهلُ طِيْلَةَ السَّهرَةِ

شَاكِرَةً ليدِي اليُسْرَى.”(6)

إنَّ الذَّاتَ، هُنَا، تَعْتَرِفُ، في دَاخِلهَا، بَيْنَ يَدَيْ المعْشُوقَةِ، عَبْرَ هذِهِ النَّبرَةِ الاسْتبطانيَّةِ الابتهاليَّةِ، وَعلى نحوٍ مُغَايرٍ، تتبدَّى الغِنائيَّةُ الاعْتِرَافيَّةُ، كَذلكَ، في قَوْلِ مِيلاد زكريا يوسف (1971- ):

“نَعَمْ

أنَا شَخْصٌ قَبيْحٌ

وَلا أصْلُحُ سِوَى أنْ أكُونَ مَكْرُوهًا

عليَّ أنْ أعترِفَ بِذلكَ.

في العَادَةِ، عِنْدَمَا تَرَونَنِي لأوَّلِ مَرَّةٍ أكونُ جَالِسًا مِثلَ مَلاكٍ سَاذَجٍ

وَبَعْدَ لقَاءَاتٍ قليْلةٍ

تَخَافونَنِي.. وَتَرْغَبُونَ في التَّخلُّصِ مِنِّي

تَخْتَفِي وَدَاعَتِي الزَّائفَةُ

وَأصْبِح جَديرًا بكَرَاهِيتِكُمْ

جَرَّبْتُ مَعَكُمْ كلَّ شَيءٍ

كُنْتُ مَرَّةً ضَاحِكًا

وَمَرَّةً حَزينًا

لكنِّي طِيْلةَ تَاريخِي الطَّويْلِ

فَشِلْتُ أنْ أقنِعَكُمْ بأنَّي صَالحٌ لِلمَحَبَّةِ .

كُلُّ الحَوَادِث كَانَتْ تُثْبِتُ لِي

أنَّنِي شَخْصٌ كَريْهٌ

وَكُلُّ وَجْهٍ أقابِلُهُ

يُضِيْفُ إلى مَلامِحِي قُبْحًا جَدِيدًا

وَنقْصًا جَديدًا.”(7)

إنَّ الذَّاتَ، هُنَا، تُواجِهُ ذَاتَهَا، في حَقِيْقَتِهَا العَارِيَةِ؛ بِلا رتوشٍ، كَاشِفَةً عنْ طبيعَتِهَا الشِّريرَةِ، الجارحَةِ، الكَامِنَةِ، المؤلمةِ، في نَبْرَةٍ اعْتِرَافيَّةٍ خَالِصَةٍ؛ مُقِرةً بقُبْحِهَا، وَبِصَلاحِيتِهَا لِلْكَرَاهِيَةِ، وانْقِلابِهَا على الآخَريْنَ .

الغِنَائيَّةُ الإيروتيكِيَّةُ

تُعَدُّ الغِنَائيَّةُ الإيروتيكِيَّةُ، منْ أكْثَرِ الغِنائيَّاتِ اتِّحادًا بأصْوَاتِ الدَّاخلِ، وَنَبَرَاتِهِ؛ حَيْثُ تتكشَّفُ في خِطابِ هذِهِ الإيروتيكِيَّةِ، الأصْوَاتُ العَمِيقَةُ، المحتجَبَةُ، المتدفِّقَةُ، الحمِيْمَةُ، الحيَّةُ، الصَّاعدَةُ منْ أقاصِي الأعْمَاقِ، وَمِنْهَا قَوْلُ فريد أبي سِعدة (1946- ):

“سَآخُذُكِ إلى بيتِي

 أُرِيْكِ

كَيْفَ أصْنَعُ قهوتِي في السَّابِعَةِ

على نَارٍ دَاخِليَّةٍ

ثمَّ

أجْلِسُ في البَلكُونَةِ وَحِيْدًا

أُدَخِّنُ

سَأُريْكِ مَكْتَبَتِي

وَأضَعُ- دُونَ أنْ تنتبِهِي-

أصْبَعِي على فَمِي

 كيْ لا تَتَحَدَّث الكُتُبُ

في حُضُورِكِ.

سَأترُكُكِ في المَطْبَخِ

شَاردَةً

تُسَوِّيْنَ القَهْوَةَ

وَأُفاجِئُكِ

عَاريًا تَمَامًا!

سَأُدْخِلُكِ غُرْفَةَ النَّومِ

لأُدْهِشَكَ بقطِيْعٍ مِنْ القِطَطِ السِّيَامِيَّةِ

نَسْتَلقِي على فِرَائِهَا الحَيِّ

بَيْنَمَا تَدُورُ بنَا ببُطءٍ

لِنَرَى القَمَرَ مِنْ النَّافذَةِ

يَكْتَمِلُ شَيْئًا

فَشَيْئًا.

سَنَجْلِسُ على السِّيرَامِيْكِ

عَارِييْنِ

نَسْتَمِعُ إلى المُوسِيقَا

وَهِيَ تُصْدِرُ أوَامِرَهَا

فتنهَمِر الطُّيورُ مِنْ النَّوافِذِ

وَالشَّلالاتُ

مِنْ بيْنِ الكُتُبِ

وَتَزْحَفُ الغَابَةُ باتِّجَاهِ الحَمَّامِ.”(8)

الغِنَائيَّةُ الدِّرَاميَّةُ

وَهِيَ غِنائيَّةٌ تتأسَّسُ على مَوْقِفٍ دِرَامِيٍّ، بَيْنَ طَرَفيْنِ؛ يتبدَّى أحَدُهُمَا صَوْتًا مُرْسِلاً، وَلا يحضُرُ الآخَرُ إلاَّ مُسْتَقْبِلاً، وَهُوَ مُشَخْصَنٌ في السَّردِ الشِّعريِّ الدِّرامِي، وَيُؤسَّسُ الصَّوتَانِ: الحَاضِرُ وَالغَائِبُ، حضورًا دِرَاميًّا، تَتَصَاعَدُ فيْهِ دَرَجَاتُ الغِنَائيَّةِ الدِّراميَّةِ، تَدْرِيجيًا، وَمِنْها قَوْلُ مِيلاد زكريا:

“أيَّتُهَا الجَمِيلَةُ السَّمرَاءُ

هَلْ يُمْكِنُ أنْ نَجْلِسَ سَوِيًا لِبَعْضِ الوَقْتِ

يُوْجَدُ في هَذَا الرُّكنِ كُرْسِيَّانِ خَاليَانِ

وَلدَيَّ عُلْبَةٌ كََامِلَةٌ منْ سَجَائرِ البُلمونت

سَيَكونُ طَيِّبًا أنْ نَتَحَدَّثَ بَيْنَمَا نُدَخِّنُ

        وَنَشْرَبُ كُوبَيْنِ مِنْ الشَّاي

يبدو أنَّ هُنَاكَ عِلاقةٌ خَفِيَّةٌ

       بَيْنَ التَّدخِيْنِ وَالشَّاي وَالحُبِّ.

اخْلَعِي نظَّارتََكِ

كيْ أرَى شَيَاطِيْنَ الضَّحِكِ

الَّتي خَرَجَتْ مِنْ عيْنَيْكِ وَطَارَدَتْنِي

وَجَعَلتْنِي اكْتَشِفُ كَمْ كُنْتُ قَبِيْحًا.”(9)

شَخْصَنَةُ الغِنَائيَّةِ الجَدِيدَةِ

تبدو الغِنَائيَّةُ الجديدَةُ، في قَصِيدَةِ النَّثرِ المصْريَّةِ، أكْثَرَ شَخْصِيَّةً وَإنسَانيَّةً وَحميمِيَّةً، وَاسْتِقْصَاءً لِعَوَالمِ الذَّاتِ، وَالتِحَامًا بالصَّوتِ البَاطِنيِّ العَمِيْقِ؛ وَبِنَبْرَتِهِ الإنسَانيَّةِ الحقيقِيَّةِ، وَالتِصَاقًا بالتَّاريخِ الشَّخصِيِّ، وَبالتَّفاصِيْلِ الصَّغيرَةِ البَسِيطَةِ العَابرَةِ المحيطَةِ بالذَّاتِ؛ حَيْثُ تَتَجلَّى الأنَا في صَوْتِهَا الوَاقِعِي المعِيْشِ، وَفي أدَاءٍ حُرٍّ لا يتقيَّدُ بحدودِ شِعريَّةٍ سَابقَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ أمجد ريَّان (1953- ):

“أُعَرِّفُكُمْ بنَفْسِي: أنَا في الخَمْسِيْنَ، أُحِبُّ الجُبْنَ الرُّومِيَّ، وَالشَّايَ الأخْضَرَ، وَأُحِبُّ قَصِيدَةِ النَّثرِ؛ بِشَرْطِ أنْ تَكُونَ نثريَّةً حَقًّا، وَأُحِبُّ فَتَاةً بَاقيَةً في ذَاكِرَتِي مُنْذُ أيَّامِ الطُّفولَةِ، اسْمُهَا رُشْدَان، أُحِبُّ أنْ أغْلِقَ البَابَ بالمِفْتَاحِ قَبْلَ أنْ أنَامَ، وَأُحِبُّ أسْمَاكَ الرِّنجَةِ وَالخَرْشُوفِ، وَأُحِبُّ السَّاعَاتِ المُتأخِّرَةَ منْ الليْلِ، أُحِبُّ الرَّسَامَ “شَاجَال” وَقِصَصَ تُورجِنيْفَ.

أُعَرِّفُكُمْ بنَفْسِي: اكْتَشَفْتُ أوَّلَ أمْْسِ فَقَطْ، أنَّنِي في غَايَةِ الرُّومانتيكِيَّةِ؛ فَقَدْ ضَبَطْتُ نَفْسِي وَاقِفًا أمَامَ حَوْضٍ منِ الزُّهورِ الصَّفرَاءِ الكَبيْرَةِ بأوْرَاقٍ كثيْرَةٍ شَدِيدَةِ التَّفتُّحِ، ضَبَطْتُ نَفْسِي أبْذُلُ جُهْدًا في التَّأمُّلِ، وَأقولُ: الله، أوَّل أمْسِ فَقَطْ، اكْتَشَفْتُ أنَّنِي رُومَانسِيٌّ ، أوَّل أمْسِ يَوْم الخَمِيس 22 يناير.

سَوْفَ أُعَرِّفُكُمْ بنَفْسِي منْ خِلالِ أخَصِّ خُصُوصِيَّاتِي، منْ خِلالِ حَافِظَةِ نقودِي الَّتي أضَعُهَا في جَيْبِ بنْطَلونِي الخَلْفِيِّ: تَحْتَوي حَافِظَتِي على ثلاثَة عَشَر جُنَيْهًا وَنِصْف، وَهُوَيَّةٍ شَخْصِيَّةٍ مُتَهَالِكَةٍ لا يَكَادُ يَظْهَرُ شَيءٌ منْ حروفِهَا، وَاشْتِرَاكِ “المِتْرو” الَّذي أسْتَطِيْعُ أنْ أسْتَخْدِمَهُ خَمْسَةَ أيَّامٍ أخْرَى، وَرَقَةٍ مُطَبَّقَةٍ صَغِيْرَةٍ فيْهَا رَقَمُ هَاتِفٍ نَسِيْتُ أنْ أكْتُبَ اسْمَ صَاحِبِهِ؛ لِذَا فَقَدْ الرَّقمُ قِيْمَتَهُ، وَلكِنَّنِي أحْتَفِظُ بهَذِهِ الوَرَقةِ مُنْذُ سَنَوَاتٍ، وَبطَاقَةِ عِلاجٍ في مُسْتَشْفَى “قَصْرِ العَيْنِي” الجَدِيْدِ، وَعَليْهَا مُلاحَظَةٌ: وجُوبُ إحْضَارِهَا كُلَّمَا زُرْتُ المُسْتَشْفَى، وَكَرْتٍ رَسَمَهُ الفَنَّانُ “عمر جِهَان” وَسَجَّلَ عليْهِ رَقَمَ هَاتِفِهِ المَحْمُولِ، وَوَرَقةٍ صَغِيْرَةٍ فيْهَا بَعْضُ أبْيَاتٍ منْ الشِّعرِ كتَبْتُهَا وَأنَا جَالِسٌ في “المِتْرو”؛ وَلكِنَّنِي لمْ أتمَكَّنْ منْ إكْمَالِهَا حتَّى الآنَ.”(10)

إنَّ الغِنائيَّةَ الجديدَةَ، هُنَا، لا تَضْرِبُ في فَضَاءَاتِ الغِيَابِ، أوْ تَلافِيْفِ الرُّؤى الغَائِمَةِ أوْ البَعِيْدَةِ؛ وَإنَّمَا تحْمِلُ- في تَدَفُّقِهَا- تَفَاصِيْلَهَا المعِيْشَيَّةَ الدَّقِيْقَةَ الحيَّةَ، وَنَبَرَاتِهَا الدَّاخِليَّةَ الشَّخصانيَّةَ العَمِيْقَةَ؛ لِتُشَكِّلَ غِنَائيَّةً حَيَاتيَّةً حَيَّةً وَخَاصَّةً، زَاخِمَةً باليَوْمِيِّ الحيَاتيِّ المعِيْشِ.

الهَوَامِشُ وَالإحَالاتُ

(1) رَبَطَ ابنُ رَشِيْق- في عُمْدَتِهِ- نشأةَ الشِّعرِ العَرَبيِّ بالغِناءِ، حِيْنَ رَأى أنَّ العَرَبَ “احْتاجَتْ إلى الغِنَاءِ بمكارمِ أخْلاقِهَا، وَطِيْبِ أعْرَاقِهَا، وَذِكْرِ أيَّامِهَا الصَّالحةِ، وَأوْطَانِهَا النَّازحَةِ، وَفُرْسَانِهِ الأنجادِ، وَسُمَحَائِهَا الأجْوَادِ؛ لِتَهُزّ أنفاسَهَا إلى الكَرَمِ، وَتَدُلّ أبناءَهَا على حُسْنِ الشِّيمِ؛ فتوهَّمُوا أعَاريْضَ جَعَلُوهَا مَوَازيْنَ الكَلامِ، فلمَّا تمَّ لهم وَزْنُهُ سَمَّوه شِعْرًا “. ابن رشيق – العُمْدَة – طبعة: أمين هنديَّة بمصر- 1925- الجزء الأوَّل – ص: 5.

(2) د. شوقي ضيف- الفنُّ ومذاهبُهُ في الشِّعرِ العَرَبيِّ- الطَّبعة الثَّالثة- مكتبة الأندلُس- بيروت، لبنان- 1956- ص: 40.

(3) السَّابق- ص: 41.

(4) السَّابق- ص: 38.

(5) سامي سعد- كمَلِكٍ يتأهَّبُ للفِرَار- دار شرقيَّات- القاهرة-2012- ص ص:11- 36.

(6) أسامة الدَّناصوري- عينٌ سَارحِةٌ وعين مُنْدهِشة- دار ميريت- القاهرة- 2003 – ص ص:42-43.

(7) ميلاد زكريا يوسف- سيِّد العالم- كتابات جديدة، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب – 1966- ص ص: 11- 14.

(8) فريد أبو سعدة- مُعلَّقةٌ بشصّ- أصوات أدبيَّة، العدد:236، الهيئة العامة لقصور الثَّقافة- 1998- ص ص:11- 14.

(9) ميلاد زكريا يوسف- سيِّد العالم- سابق- ص: 47.

(10) أمجد ريَّان- ضدّ الفَرَاغ العَاطِفِيّ- أصوات أدبيَّة، العدد:391، الهيئة العامة لقصور الثَّقافة – ص ص: 23- 24 ، ص: 26.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *