الجمعة 29 مارس, 2024

العطش في الرمضاء أهون

العطش في الرمضاء أهون

علي .أ. دهيني

ali.

حدثني رفيقي وهو يجلس إلى جانبي ودخان سيجارته يملأ ما حولنا لتسارع سحوباته ونفث دخان هذه الرفيقة التي لا غنى عنها، وكثرة الشوق إليها في لحظات التوتر والضيق النفسي، عن صديقه الذي تجمعه به الكثير من الرؤى الفكرية حتى يكاد المستمع إليهما يظن أن المتحدث واحد، فحين يسكت الأول يكمل الثاني من حيث أنتهى الأول دون أن يميّز السامع بين من يتحدث الآن.

نظرتهما الإنسانية واحدة، علاقتهما بالآخر لها ذات التقييم، رؤيتهما في تحليل الواقع الاجتماعي تتكامل بينهما، حتى حساسيتهما من بعض الأمور واحدة.!!

قَبِلتُ ضيافته لي سيجارة ناولني إياها بيده ليفهمني أن رفضي لها ممنوع، وعليّ أن أشاركه سيجارته الرابعة ربما أثناء حديثنا، تناولتها وانحنيت لإشعالها من ولاعته التي لا تهدأ عن الحركة بين أصابع اليد الثانية، حيث السيجارة تشغل الأولى، وقد قدحها تأكيداً لإصراره أن اشاركه التدخين، وأنا أصغي إليه بعينيّ إلى جانب صغ أذناي.

ـ ليس قيمة أن يكون لك صديق بالأمر الهيّن.. قد تجد كثيرين ممن تتبادل معهم أطراف الحديث، لكنك تبقى محتفظاً بأنت، بذاتك، بخصوصياتك، بما تعتبره جزءاً من شخصيتك لا يمكن إعارته أو الكشف أو البوح به لأحد، كي لا تصدم بعدم فهمه سريرتك. إلا أن الصديق أمر آخر عكس كل هذا.. الصديق أنت بوجه آخر وجسم آخر.

ـ عليك أن توجز قليلاً كي أفهم ما تود قوله، وقد شارفت الرحلة بنا إلى منتهاها..

ـ حسناً.. صديقي الذي أحدثك عنه يكاد يكون “أنا” كما أكاد أن أكون “هو” لشدّة ما بيننا من تمازج وتماهي في كل شيء.. منذ أيام سعيت للاتصال به ولم ألق جواباً، انتظرت يوماً وعاودت الاتصال، لا جواب.. جُلتُ في الأماكن التي اعتدنا أن نتواجد فيها، فوجدته يتردد عليها مكاناً تلو آخر، في حين أن الحيرة تُربكني، وقلقي عليه يمسك كل تفكيري عن سواه.. ولا يترك لي خبراً عنه.

ـ وماذا حصل.؟

ـ تركت له رسالة، لا جواب أيضاّ!! فقررت أن أعاتبه في أول لقاء يجمعنا.. حددت له موعداً ليلقاني.. فلم يستجب، وفي نفس الوقت كان موجوداً في مكان قريب، وكأنه يريد أن يفهمني أنه عازف عن الالتقاء بي.

ـ وماذا كان ردُّ فعلك.؟

نظر إليّ نظرة أشعرني بأن حدقات عينيه سوف  تقفز وتلطمني على هذا التساؤل:

ـ وماذا تريد أن يكون موقفي.. ألا يكفي هذا الإرباك الذي يكبلني ويشل تفكيري عن أي شيء سواه.. ألا يكفي أن أشعر أننا بتنا على غير تفاهم.. ألا يكفي أن أشعر بأن “صديقي” صار غريباً عني وصرت غريباً عنه.

ـ مهلا.. مهلاً، ولكن أتساءل أين تكمن هواجس انفعالاتك وإرباكك، وكل هذا التوتر الذي يبدو عليك، ما دام الصديق في الماهية التي ذكرتها، والعلاقة التي تكاد أنت هو وهو أنت، في كل هذا، ألم تجد له عذراً يبرر تصرفه.؟

ـ لا.. لم أجد.. والسبب أنه إن أراد أن يتصرف بأمر قد يراه في صالحي، عليه أن يخبرني كي لا يتدخل شيطان التفاصيل في ما بيننا.. وتالياً ، إن كان لأمرٍ أهمّه أو أغمّه، كان عليه أن يطلعني على ما به كي أكون إلى جانبه.. أيضاً، ما رابني أنني عرفت أنه على غير مرض أقعده عن التواصل من خلال تواجده في الأماكن المشتركة التي كنا نلتقي بها. ألمي مضاعف في هذا لأنه لم يترك لي ما يؤشر على أنه حافظاً لهذه الصداقة، إذ يَعْبُر هذه الأمكنة دون اكتراث لوجودي فيها!؟..

ـ عجيب.. عجيب أمرك يا رفيقي، ماذا تريد منه.. لعل أمراً أشغله أو ظرفاً حال دون قدرته على التواصل..

ـ سبحان الله..!! ربما لم تسمعني.. قلت لك هو يتردد على الأمكنة المشتركة ويتواجد فيها، فكيف يكون الظرف لم يساعد.؟

ـ يا رفيقي.. أنا أفهم أن الصداقة أرقى من أي علاقة إنسانية غيرها، وأفهم، كذلك، أن غياب الصديق ليس مُبَرِّراً لسوء الظن، ولكن أفهم، أيضا، أن العتاب في الصداقة وغفران الأخطاء أمر لا بُدّ منه لأنه من أساس قيامها واستمرارها..

قاطعني حتى كاد يلطمني:

ـ والصداقة، أيضاً، أن لا ترى صديقك وتدير له ظهرك دون أن تبيِّن له السبب؟.. لو كنت أنا البادىء، كنت بادرت للتوضيح وأظهرت عذري.. ولا أخفي أنني أشعر بالإهانة..

ضحكت لردات فعله من جهة ، وأيقنت مدى هذا الإكبار لصديقه في نفسه، وقيمته عنده من ردات فعله وغضبه، فلو لم يكن هذا الصديق عزيزاً عليه ويشعر بالغربة دونه، لما كانت هذه حاله.

ايقنت كذلك، أن للصداقة قيمة وماهية تفوق كل الاعتبارات حين تكون المصداقية هي النبراس الذي تتحرك به وتقوم عليه، ووجدتني أردد على سمعه، وأطيب خاطره ونحن نهم بالنزول من الحافلة، بعدما وصلنا إلى مكان الافتراق:

ـ أنا أفهم معاناتك ومكانة صديقك في نفسك،  أنا لا أنكر عليك قيمة الصداقة وماهيتها، إن العطش في الرمضاء لأيام أهون على النفس من فقدان صديقٍ صديقْ. فالصديق هو العقل الثاني لنا الذي نفكر به، هو الظل الملتحم بنا كيفما تحركنا، هو المرآة التي نرى انعكاس صورتنا فيها.. لأنه يعلم ويعرف ما بداخلنا وخارجنا.. عليك أن تمهله فترة من الزمن بعدها تستعيدان ما كنتما عليه..

كاد أن ينصرف قاطباً جبينه مرسلاً نظره إلى أفق مجهول، كمن يبحث عن جواب لسؤال..

رغبت أن أترك ابتسامة تريح باله بعدما شجعته على إفراغ شحنات ما يعتمل في نفسه من غضب أو تلاوم، لأنه من المهم جداً أن نفرغ ما يعتمل في نفوسنا من قهر أو غضب، وأن نسمي الأشياء بأسمائها حين نشعر بسوء، لأن في إخراج ذلك راحة كبيرة للنفس.. فقلت له مع ابتسامة: لو سمحت، سيجارة أدخنها وأنا أتذكر حديثك الممتع.. وانصرفنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

الرفيق هو من نرافقه في طريق أو في سفر. والصديق هو من تجمعنا به مودة وصدق.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *