الخميس 28 مارس, 2024

خطأ من خارج سياق السيرة

أمين معلوف : خطأ من خارج سياق السيرة

شوقي بزيع

ma3lof-1كان حرياً بهذه المقالة أن تتمحور حول أدب أمين معلوف وإسهامه المتميز في تطوير فن السرد ومساءلة التاريخ والبحث عن أفق للمستقبل تشيع فيه مناخات الألفة والسلم العالمي وتفاعل الحضارات والوئام بين الشعوب. على أن القفز فوق حادثة ظهوره على إحدى محطات التلفزة الإسرائيلية، وما تبعها من ردود صاخبة وغبار كثيف وبيانات تنديد متلاحقة يبدو نوعاً من دفن الرأس في الرمال، أو تواطؤاً ولو غير مقصود مع صوم معلوف المطبق عن الكلام وتجاهله لكل تلك الأصوات اللبنانية والعربية التي فاجأها ذلك الظهور الصادم الذي لا يجد مسوغاً له في تاريخ صاحب «ليون الأفريقي» ولا في مواقفه السياسية والفكرية السابقة. وليس بالأمر المستهجن بالطبع أن تلاقي الحادثة المذكورة كل ذلك الاهتمام وكل تلك التداعيات، لأنها تتصل بشخصية عربية استثنائية كادت أن تتحول، في زمن التشظي والانهيارات الكبرى وتفشي الإرهاب وعنفه الدموي الأسود، إلى أيقونة حقيقية وإلى تجسيد رمزي لكل ما هو مضيء في واقع الأمة وحاضرها. ولو كان الأمر يتعلق بكاتب هامشي لاختلفت ردود الأفعال وتراجع منسوب ذلك السخط العارم الذي ووجهت به الحادثة.

لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن هدف هذه المقالة ليس الدفاع عن أمين معلوف ولا تسويغ ظهوره الصادم على محطة إعلامية معادية، بل هي محاولة لوضع الأمور في نصابها، بحيث لا يكون تجاهل الحادثة نوعاً من القبول الضمني بها وتحريض الآخرين على تكرارها من دون أي وازع من جهة، ولا يتخذ من حدوثها ذريعة ملائمة للانقضاض على الكاتب بما يشبه الاغتيال الرمزي والمعنوي من جهة أخرى. إن ما قام به صاحب «موانئ الشرق» و «سمرقند» هو من وجهة نظري ونظر الكثيرين خطأ جسيم لم يكن مضطراً إلى اقترافه بأي حال من الأحوال، وتحت أية ذريعة أو مسوّغ متصل بهويته الثانية أو بعضويته للأكاديمية الفرنسية. إذ إن الكثيرين من أدباء العالم وشعرائه امتلكوا جرأة الوقوف في وجه الكيان الصهيوني ونددوا بعدوانيته الوحشية وباغتصابه للحق الفلسطيني، ولم يتردد بعضهم في زيارة رام الله للتنديد بارتكابات العدو من فوق أرض فلسطين بالذات، كما فعل ساراماغو وغويتوسولو ووول سوينكا وآخرون غيرهم. وإذا لم يكن معلوف مطالباً بزيارة الأرض الفلسطينية لأسباب تتعلق بالدستور اللبناني الذي يمنع اللبنانيين من مهر جوازات سفرهم بتوقيع إسرائيلي، فإنه مطالب بالطبع بألا يمنح العدو فرصة ثمينة كهذه الفرصة بحيث يبدو ظهوره ذاك نوعاً من الإقرار بشرعية وجوده وممارساته الفاشية، أو على الأقل تغاضياً عن كل ذلك، حتى ولو لم يتحدث الكاتب في السياسة ولم يقارب الصراع العربي ـ الإسرائيلي من أية ناحية. وربما كانت ردود الفعل أقل وطأة لو أنه اتخذ من المناسبة فرصة للتنديد بالاستيطان والعسف الإسرائيليين، ولإنصاف الشعب الفلسطيني وإرساء قيم العدالة والحرية والكرامة الإنسانية التي تجسدها أعمال معلوف ورواياته خير تجسيد.

لا حاجة للتذكير هنا بالانشطار القائم بين أدب بعض الكتّاب وبين مواقفهم السياسية والعقائدية المعلنة، أو حتى سلوكياتهم الاجتماعية والشخصية. ذلك أن فصاماً من نوع ما كان يظهر جلياً بين ما يقوله الإبداع في جوهره وما يتخذه المبدعون من مواقف. فبلزاك، على سبيل المثال، اتخذ موقفاً سلبياً من كومونة باريس في القرن التاسع عشر وانحاز إلى نابليون الثالث في وجه حراك الشعب الفرنسي ورفضه للانقلاب المستجد على قيم الثورة الفرنسية، في حين أنه كشف عبر رواياته عما يعتمل في أحشاء المجتمع من تمزقات ومن سعي الطبقات السفلى إلى التغيير والحرية واستشراف المستقبل. كذلك كان الأمر مع عزرا باوند الذي وقف في صف الجنون النازي فيما كان يرفع عبر شعره لواء الحداثة والتجدد والتمرد على السائد. وكانت روايات توماس مان نقيضاً حقيقياً لمواقفه السياسية المحافظة وغير المبررة. على أن مواقف أمين معلوف لم تكن في يوم من الأيام مناقضة لأدبه المطل على أصفى ما في الإنسان من سريرة، وأكثر ما يختزنه داخله من إيمان بالعدالة والمساواة بين البشر. وللكاتب من سيرته الطويلة منذ عهد الصبا وعمله في الصحافة ونزوعه اليساري الواضح، ما يجعل من الخطأ الذي ارتكبه حادثة معزولة ومنبتّة بالكامل عن سياق حياته وأفكاره.

تنضح أعمال أمين معلوف العديدة منذ «الحروب الصليبية كما رآها العرب» وصولاً إلى «التائهون» بفيض غامر من حب البشر وإعلاء الإنسان كقيمة جوهرية يجب رفعها عن حضيض التنابذات والأحقاد الدينية والعرقية والقومية. لذلك جعل أبطاله شخصيات عابرة لكل الحواجز الإثنية ومخترقة للهويات الصافية والمنغلقة على ذاتها. وإذا كان قد اختار معظمهم من القرون الوسطى حيث كان التاريخ يُكتب بدم التذابح الأهلي والظلامي، فليس هروباً من الواقع المعيش بقدر ما هو فعل إيمان بقدرة الإنسان الفرد على اختراق ليل العالم وتجاوز الحدود المقفلة بين الشعوب والأديان. فمن أحشاء التراجيديا الأندلسية فتح ليون الأفريقي العيون على كوّة الضوء المطلة من نفق البغضاء ورفض الآخر، واستطاع أن يرتق بمكابداته المضنية هاوية الشروخ الفاصلة بين الأمم، متنقلاً بين دول المغرب ومصر وصولاً إلى روما التي أتاحت له الوصول إلى أرفع المناصب الدينية. كذلك كان الحال في «سمرقند» التي تتبع عبرها سيرة عمر الخيام وعلاقته بحسن الصبّاح وبدولة الحشاشين التي يبدو العنف الداعشي المعاصر تظهيراً معاصراً لنزوعها الدموي والتكفيري. وفي «رحلة بلداسار» يتخذ معلوف من تاجر التحف الإيطالي الذي استوطنت عائلته في جبيل اللبنانية زمن الصليبيين ذريعة رمزية لإظهار ما يجمع بين سواحل المتوسط من روابط ثقافية وجغرافية وحضارية، بما يؤكد النزعة المتوسطية المتأصلة في داخله. وربما كان معلوف نفسه هو بلداسار «مقلوبا»، حيث يترك شواطئ بلاده ليعطي لهويته الجامدة فضاء آخر ووجوهاً أخرى. على أن كل ذلك لم يكن ليخفي بأي حال تعلق الكاتب بوطنه الأم، ولا تلك النوستالجيا المفعمة بالشجن التي ظهرت بوضوح من خلال سيرته الشخصية التي تضمنها كتاب «البدايات»، حيث تعقب مسيرة أسلافه الشاقة في بلاد المهجر متشبعاً نداء السلالة ووجيب الدم في العروق الأولى. وهو ما ظهر أيضاً في «صخرة طانيوس» التي عكست حنين الكاتب إلى مربّع الحياة الأول وولاءه العميق لجذوره، والتي شاءت المفارقات أن تكون هي بالذات سبب حصوله على جائزة غونكور.

على أن أدب معلوف بشخصياته العابرة للهويات أو المنتمية إلى هويات مركّبة، كما هو حاله بالذات، لا مكان لتحققه على أرض الواقع إلا في ظل عالم مثالي يوتوبي يشبه ذلك الذي رسمه أفلاطون في جمهوريته أو الفارابي في مدينته الفاضلة أو سانت دي أكزوبري في «الأمير الصغير». فرغم أن الشركات العابرة للقارات ونظام السوق المعولم حوّلا الأرض إلى قرية كبيرة وأسهما في خلق مجموعات بشرية كبرى ساعية إلى التوحد أو التكامل، أظهر العقد الأول من القرن الحالي نزوعاً غير مسبوق للتعلق بالهوية الكيانية ومقاومة الذوبان في التجمعات الكبرى. وهو ما تؤكده جلياً الأقليات والإثنيات المطموسة أو الملتحقة عسفاً بالأكثريات المهيمنة. أو ما يعزز صوابيته من جهة أخرى الخروج المدوّي لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واتجاه الكثير من كيانات العالم الراهنة إلى التفسخ والانقسام. وقد يكون الكاتب على حق في ما ذهب إليه عبر «الهويات القاتلة» من دعوة إلى إخراج الهوية من دائرتها السحرية المقفلة التي لا تنتج إلا حروباً بلا طائل وخطوط تماس ظلامية تفصل بعضها عن بعض أنهار غزيرة من الدماء. على أن تلك الدعوة يجب ألا تتجاهل بالمقابل الهويات المقتولة، ولا حق الشعوب التي اقتُلعت من جذورها وطمست هويتها بالكامل في استعادة حريتها وكرامتها وكيانها الوطني. ولم يكن معلوف في يوم من الأيام، وهو الكاتب والمثقف المستنير، بحاجة إلى من يدله على مثل هذه الحقائق، أو من يجري له فحوصاً لمنسوب التشبث بوطنيته وجذوره الأم. إلا أن هذا الأمر بالذات هو ما أثار استغراب محبيه قبل خصومه، إذا وُجدوا، إزاء الحادثة غير المسبوقة.

لكن لا يجوز بالمقابل أن نتخذ من خطأ كهذا مبرراً ملائماً للدعوة إلى محاكمة أمين معلوف أو نزع الجنسية عنه، بما يشبه التصفية المعنوية والأخلاقية الكاملة، وإلا بدا ما نفعله نوعاً من النزوع السادومازوشي الذي يدفع الأمم في لحظات الانهيار وانعدام الوزن إلى الانتقام من نفسها عبر «اجتثاث» البقية الباقية من رموزها المضيئة. ثم من غير العادل أيضاً أن نرى الإبرة ولا نرى الجبل، كما يقول المثل الشائع، وأن نقيم الدنيا ولا نقعدها بفعل خطأ ما ارتكبه كاتب كبير، فيما التطبيع مع العدو قائم على قدم وساق من قبل دول ومجموعات وأفراد لا ينفكّون عن التعامل معه في السر والعلن، وصولاً إلى الزيارات والصفقات المتبادلة على كل الصعد. وبدلاً من أن يحوّلوا أمين معلوف إلى ما يشبه كبش الفداء، يجب على الكتّاب والمثقفين العرب قبل غيرهم أن يتنادوا إلى حوار معمق أو لقاء واسع يضعون خلاله معايير وأسساً واضحة لكيفية التعامل مع العدو في المحافل الدولية والمؤتمرات الفكرية والأدبية وترجمة الكتب ونشرها داخل فلسطين المحتلة، كي لا تظل المسألة رهناً بالأمزجة والتأويلات الشخصية والتراشق اليومي بتهم الخيانة والتطبيع عند كل حادثة مماثلة. وإذا كان من حق صاحب «حدائق النور» أن يشعر بالمرارة أو الصدمة إزاء ما يعتبره ردوداً يفيض حجم قسوتها عن الفعل نفسه، فإن من حقنا عليه ولو متأخراً عن الأوان أن لا يجعل صومه عن الكلام نوعاً من الترفع عن الرد أو الاستهتار بمشاعر قرائه ومتابعـيه لأن السكوت ليس دائماً من ذهب.

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-07-29 على الصفحة رقم 7 – السفير الثقافي

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *