السبت 20 أبريل, 2024

إلى أين تأخذني أيها الشعر

شوقي بزيع في «إلى أين تأخذني أيها الشعر».. كل اللغة

ياسين رفاعية

bzae3-1قد تكون مجموعة شعر شوقي بزيع الأخيرة: «إلى أين تأخذني أيها الشعر» مختلفة كلياً عن مجموعاته السابقة، لأن ما يقترحه الشاعر على الكتابة يذهب بنا إلى عوالم أخرى أكثر رحابة وعمقاً، ففي معظم قصائد المجموعة نلمح مواءمة ناجحة بين المفردة والنسيج الكلي للقصيدة التي تشبه اللوحة التشكيلية. ويلفتنا هنا المزج البارع بين الشكل والمعنى، كما بين المحسوس والميتافيزيقي. إضافة إلى البعد التصاعدي للنصوص بحيث نشعر أننا أمام سيمفونية كاملة متناسقة السلالم والإيقاعات. لذلك فإن الإنصات العميق للقصيدة هو من ضروريات فهمها والتمتع بأنغامها وظلالها.

إن السؤال الصعب: «إلى أين تأخذني أيها الشعر» ليس عرضياً في المجموعة، بل هو يكاد يكون السؤال المحوري الذي يؤالف بين القصائد. على ما بينها من تنوّع واختلاف.

إنني أتهيّب شخصياً قراءة هذا الشاعر وبخاصة في هذه المجموعة التي تتمايز في مقاربة العالم، كما في النبرة الشعرية.

تشبه القصيدة هنا القصة القصيرة ولكن في جانبها الشعري، إنها حالات من الشجن والنزف والتمزّق الداخلي. فشوقي يودّ لو يختزل في لغته كل أحزان العالم وأفراحه، يودّ لو يعانق الأميرة المجهولة الجالسة قبالته في مقهى دبيبو حيث اعتاد أن يكتب قصائده منعزلاً عن البشر منصرفاً إلى استنباط اللغة والأفكار والتخيلات الهاربة أمام ناظريه. أما التحولات التي ترافق الكتابة عنده فهي منبثقة من عمق نظرته إلى الحياة من جهة، ومن التزامه المزمن بتجديد عقده مع اللغة وفضاءاتها الغامضة من جهة أخرى. فالشعر هنا سفر في المجهول، وافتضاض لمكوّنات النفس والعالم، ومجازفة بالذات لا نهاية لمخاطرها.

 

قراءة الغابات

إن قراءة هذا الديوان يأخذ شكل قراءة الغابات المترامية التي لا تكتسب جمالها من التفاصيل المجردة وحدها بل من النسق العام للأشجار المتباينة في أنواعها وأشكالها. وتتراوح حركة الكشف والاستتار في القصائد على نحو لافت، وحين يرفع الشاعر النقاب عن جمال القصيدة المستتر وكنوزها الدفينة يمنحنا فرصة الانتشاء بخمرة تجربته الروحية، ويجعلنا ننسى أو نتناسى الآلام والمكابدات التي تثيرها في النفوس أسئلته الحارقة، فهذا الشعر، كما هو حال كل شعر، هو دعوة إلى وليمة المعرفة والفرح العامرة بالأطايب. ومع ذلك فهي وليمة مشتركة بين الجسد والروح، كما بين البصر والبصيرة. وفي المجال البصري يساعدنا شوقي على فك شيفرة مرثياته عبر بلورة عجائبية تُعيد كل لون إلى لوحته، وكل صورة إلى مصدرها في هيولى تهويماته النازفة. على أن صوره تومئ إلى المعنى ولا تهتك ستره، وهو القائل في قصيدة «الشاعر»: هو يدري أنّ بعض الظنّ إثم/ ولذا يومئ للمعنى ولا يقربه» فنحن لا نكفّ لحظة عن إعادة قراءة قصيدته حيث في كل مرة ينبلج معنى جديد لم نلحظه في المرة السابقة.

 

الدوامة

ولعل قصيدته «الدوامة» تعبّر بوضوح عن معاناة الشاعر مع الكتابة، حيث يبذل الشاعر كل ما يستطيعه كي يوقظ الأفكار من غفوتها، أو:

«لتقشير الهراءات

التي بالكاد تستخلصها الصدفة

من فائض مبناها/

وقد راحت كأسراب نمالٍ/

تتوارى في الزحام/

وكما اعتاد مراراً/

خفف الفوضى التي تهدر في داخله/

من معظم الأدران»

وإذا انتقلنا للقصيدة الأطول، والتي يحمل الكتاب عنوانها، فلا بد أن نتوقف عند المفارقة الأصعب التي يمثلها الشعر في حياة الشاعر، والمتمثلة في صيغة المنادى المؤثرة «يا جنتي وجحيمي/ وتوأم روحي الحزين». كما في الدعوة إلى مكاشفة صريحة ومرّة بين الشاعر وشعره:

«لنجلس إذاً يا عدوّي الجميل/

لنجلس إذاً/ حيث لم يبق في جعبة العمر

إلا القليل»

إلى أن يقول:

«أنا ما خذلتك يوماً/

ولا ارتبت في ملكوت تسنَّمته

بالنيابة عني

وأعليته مثل تاج من الشوك/

فوق جروحي»

القصيدة على طولها لا تهتم ببهرجة الكلام بل بمعاناة الكتابة ومشقاتها:

« القصيدة كالغيم لا تتصَّيد في السفح/

فاصعد على جبلٍ من ظنونك/

واهدم وراءك كل الجسور»

في الكتاب ثلاث عشرة قصيدة أميل إلى الطول، يذهب فيها الشاعر إلى عوالم متنوعة مثل «حدائق خوان ميرو» و «مصرع غارسيا لوركا»، و «رقصة سالومي» التي أودت بيوحنا المعمدان، وصولاً إلى قصيدة رنيم. أما القصائد الثلاث الأخيرة فقد انتزعت من صدري الكثير من الأنفاس، سواء في «عزلة الخادمات»، حيث نقرأ:

«وإذا ما تكلمنَ لا ينتظرن جواباً/

كمن يتكلم مع بشر غائبين/

كمن يتحرّى وراء صدى الكلمات/

صحارى مسامع جوفاء/

من قلّة الاكتراث».

ونقرأ في «التوقيت الشتوي»:

« يعود الزمان ساعة إلى الوراء/

كي نحسّ

نحن الغارقين في لزوجة الأيام/

أننا ندور في مكاننا»

وفي «مسنون» الذين هم:

«بموازين من ذهب يزنون الزمان/

الذي يبخلون بإنفاقه خشية الاختناق».

إن مثل هذا الشعر لا نكتفي بقراءته مرة واحدة، بل هو، كما ذكرت، يتجوهر في كل مرة بدلالات ومرام وأبعاد لا حدود لها.

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-01-27 على الصفحة رقم 14 – ثقافة

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *