الجمعة 29 مارس, 2024

اللغة العربية اليوم

اللغة العربية اليوم بين الإعلام والتعليم

(1)

الدكتور علي حجازي

nadwaبدعوة من “اتحاد الكتّاب اللبنانيين”، أقيمت ندوة حول اللغة العربية لمناسبة “اليوم العالمي للغة العربية” تحت عنوان “اللغة العربية اليوم بين الإعلام والتعليم” تحدث فيها الدكتور علي حجازي والدكتور كامل صالح في بحثين قيّمين وقدمها الدكتور سالم المعوش، بحضور أمين عام الاتحاد الدكتور وجيه فانوس وجمع من أهل الفكر نشطاء وأكاديمين.. تناول بحث الدكتور حجازي شبه بانوراما حول اللغة تداولاً ودوراً في مجالات علمية عدّة وفي الإعلام، وختمه بتوصية لوزارات التعليم حول ضرورة تعريب التعليم في كل مراحله وفقاً لما قدمه في بحثه.

“مدارك ثقافية” تنشر هذين البحثين على التوالي، مقدمة هنا بحث الدكتور علي حجازي.

***

يطمحُ هذا البحثُ إلى تحديدِ الموقعِ الذي آلت إليه اللغةُ العربيةُ وسطَ هذا الفيض الإعلاميُّ الجارفِ والمتشعّبِ الاتجاهات، المشتِّت والمشتَّت في كثيرٍ من الأحيان، بحيث أصبحنا نادمين على الوقت الذي نهدُرُهُ أمامَ شاشات المرياء أو المرناة، كما قال المرحوم الشيخ عبدالله العلايلي رحمهُ الله، والإذاعات وغيرها. وهنا، يجدرُ بي أن لا أعمّم، لأنَّ قسماً من الإعلام يقوم بدورهِ على أكمل وجهٍ، ويساهم بتحقيق التقارب بين مستويات التعبير اللغوية، من حيث التذوُّقُ الفنيُّ والجماليُّ للأدب والفن، عبر نشرِ اللغة العربية عبر قنواته المرئيةِ والمكتوبةِ والمسموعةِ. ولكن السؤال الذي يُطرح: ما هو الدورُ الذي أدَّتهُ غالبيةُ وسائل الإعلامِ القديمةُ والجديدة من أجلِ خدمةِ اللغةِ العربية؟ الإجابةُ واضحةٌ، فالوسائط الإعلاميةُ القديمة على ندرتها، خَدَمتِ اللغةُ العربيةَ، وحفظت إبداعها وأبحاثها، ومثالنا على ذلك، ما وصلنا من المعلقاتِ والمفضليات وسجع الكهان، ومن آداب العصور الأخرى من الجاهلية إلى اليوم… وعندما نعلمُ أنَّ المناظرة الشعرية بين جرير والراعي النميري انتشرت في قوم النميري قبل وصوله، حيث فوجىء بهم يسالونَهُ: كيف أنت وغض الطرف(1)؟

الإعلامُ كان أميناً، فوصلت القصائد إلينا، بينما نلاحظُ الكيفيةَ التي يسيءُ فيها ناقلو الأخبار والوقائع إلى لغتنا الجميلة، فنراهم غير مبالين بارتكاب الأخطاء النحويّةِ.

ونحن نحترم السريةَ في نقلِ الرسائل عبْرَ الحمام الزّاجل، على بدائيته، بينما نقفُ اليومَ مشدوهينَ أمام المشاهد المؤذية للمشاعر تنقلها الوسائل الإعلامية بدمٍ باردٍ.

والسؤال الذي نطرحهُ هو: هل نحن أمام إعلامٍ موحَّدٍ وموحِّد؟

الإجابةُ واضحةٌ، إذ أضحت قنواتنا الإعلاميةُ، المرئيةُ والمسموعةُ والمكتوبةُ، تابعةً إلاّ ما ندّرَ. وأوصلتنا ـ بعضها ـ إلى اقتتال دمويّ عبر ما عرضتهُ من مشاهد.

ماذا قدّمت وسائل إعلامنا للغة العربية الفصحى؟. سؤال يجيب عنه الدكتور فهمي هويدي حيث يقول:

إن لغتنا تُهانُ يومياً من مختلف وسائل الإعلام العربي، على نحوٍ لا يكادُ يتصورهُ إنسان سوي ينتمي إلى هذه الأمة.

والغريب، أنّ اللغة العربية كانت تعامل باحترام كبير حين كانت الأميّةُ سائدةً في مجتمعاتنا، حيث شملت ما متوسطه ثمانين بالمائة من السكان. وحيثُ كانت أوضاعُنا الثقافيةُ ووسائلُ الطباعة والنشر والاتصال أكثر تواضعاً مما هي عليه الآن. ولما تراجعت نسبةُ الأميةِ، وعمّت المدارسُ والجامعاتُ، وتقدمت وسائل الطباعة والنشر، لقيتِ اللغةُ العربيةُ ذلك المصير البائسُ الذي صرنا إليه اليوم وبصددهِ.

وهنا أشيرُ إلى أنَّ لغتنا العربيةَ ظلّت صامدة في وجه محاولات التتريك والفرنجة، ولمّا تحقق الاستقلالُ أصابها الوهنُ والضّعف.

والأمر الأغرب والأمرُّ أننا بتنا نلاحظ نسبة المطالبينَ بالكتابة باللغة العامية في مصرَ، وفي غيرها من البلدان العربيةِ (باستثناء سورية)، وإلى الكتابة بالأحرف اللاتينية التي يتواصل بها ـ مع الأسف الشديد ـ مستخدمو شبكات الاتصال (الانترنت). وأكثر ما يُلحقُ بواحدنا الأذى، عندما نسمع واحداً يقول: أنا لا أجيد استخدام الهاتف باللغة العربية.

والأمر الآخر الأكثر خطورة، هو ذلك المدُّ الإعلاميُّ العاميُّ الذي بات مسيطراً على المقابلاتِ والمساجلات والخطبِ، فالرؤساء والمسؤولون يُلقون خطبهم باللغة العامية، فيقوم المترجمون بنقلها إلى اللغات الأخرى، فصار العاملون بوسائل الإعلام والنقلِ، مضطرين إلى إيجاد معاجم تُفسِّر الكلمات العامية، بما يقابلها من الفصحى، وهكذا صرنا أمام عامّيات عديدة. وأذكر هنا أن الإنجيل المقدس تُرجِمَ في مصر إلى العامية.

وأمام هذا التشتتِ العاميّ المتعدِّدِ نطرح السؤال: من يجمعنا؟ الجوابُ بسيطٌ، العربية الفصحى هي المنفذ، وهي التي تعيدُ لأبناء الأمةِ مجدها بالتواصل والتلقي.

وعليه، فإن إعلامنا يغرقُ في شِراكِ الانقسام والخصامِ وما إلى هنالك من تشتتٍ. إنه مأزق خطير، باتت فيه القنواتُ شبيهةً بنوافذ شبابيك بيوت الحارات التي كانت النسوةُ يتشاتمن عبرها ويتصايحن.

الأمر الثاني الذي أطرحُهُ بعد مأزق الإعلام العربي هو اللغة العربية، هذه العزيزةُ الحاضنة لأبنائها، والحاملة إليهم تراثاً من العلومِ والآداب والحضارةِ، وشتى صنوف المعرفة. وأسأل: هل هي الأخرى في مأزق؟

الجواب كامن فيما أورده من وقائع… يقول فتحي الأنباري: إن الاستعمار الغربي للعالم العربي هو استعمار للثقافة العربية؛ فهل نحن مُستَعْمرون حتى اللحظة؟.

إن نظرة إلى ما يقولُه مثقفو الغرب كفيل بالإجابة، فالفيسلوف الألماني فيخته يقول: أينما توجد لغةٌ مستقلةٌ توجد أمةٌ مستقلةٌ لها الحقُّ في تسيير شؤونها وإدارة حكمها…

ويعرض الكتور أحمد نعمان (نائب رئيس جمعية الدفاع عن اللغة العربية بالجمهورية الجزائرية)، لهذه الفكرةَ فيقول: ولقد تأكدَ لي من خلالِ القرن العشرين، حين لجأت الدولُ المُنتصرةُ عقب الحرب العالمية الأولى في اجتماعها بفرساي إلى تعيين الحدود بين الدول على أساسِ المناطقِ اللغوية، وحتى عندما تتشابكُ الثقافاتُ في المناطق الواقعةِ بين أمتين كبيرتين تكون اللغة عادة، هي المعيار الذي يُحَدِّدُ شخصيةُ الإقليم المتنازع عليه.

وإذا كانت حدودُ الأمة حدودَ لغتها، فإن اللغة العربية هي حاميةُ حدودِ الأمة العربية، وهذا الأمر تنبّه له الغرب، فراح يعمل على ضرب هذه اللغة وإنزالها عن كونها لغة عالميةً صدّرتِ الآدابَ والعلومَ بمصطلحاتها العربية. والهدف واضح هو تمزيق أوصال هذا الوطن العربي الكبير. وأشير هنا إلى الخطةِ المتبعةِ لتحقيقِ ذلك، ومنها:

ـ غرسُ عقدةِ النّقصِ في أذهان طلابنا من أن العربيةَ لغةُ عاطفة وليست لغة عقل وتحليل.

ـ تشويهُ صورةِ اللغةِ العربيةِ وإظهارها أنها عاجزةٌ عن التعبير عن المصطلحات.

ـ التعليم باللغاتِ الأجنبيةِ في جامعاتنا بقصدِ إبعادِ العربيةِ عن مجالِ التفاعلِ مع العلومِ الحديثةِ تدريساً وبحثاً وتأليفاً وترجمةً.. وما النظام الذي ألزمنا به الغرب L.M.D الإجازة والماستر والدكتوراه، والذي جعلنا مرتبطين بالمناهج الغربية، إلاّ من نتاج هذا التفكير الغربي. وبتنا نلتفتُ إلى الغربِ بدلاً من الارتباط بنظام عربي لهذه الشهادات التي تجمع، والسؤال: لو اضطر طالب يعتمد اللغة العربيةَ الدّخولَ إلى الجامعات الأخرى هل يقدرُ على المتابعة؟ طبعاً لا.

ـ ربط خريجي الدول الأجنبية بتلك الدول التي تعلموا فيها، وهذا ما يمثّل تبعية أيضاً.

ـ إظهار اللغة العربية عاجزةً عن اللحاق بالتطور العلمي والحضاري بغية اعتماد لغة المستَعمِر.

إن جامعات الوطن العربي تدرسُ العلومَ والطب والهندسة في جامعاتها عدا سوريا التي تدرس هذه العلوم باللغة العربية الفصحى، ومع ذلك لا نجد نقصاً في المصطلحات ولا في غيرها. وأنا هنا مع إتقان الطالب أكثر من لغةٍ أجنبيةٍ إلى جانب إتقانه العربية.

ولكن، وبالرغم من المخطط الاستعماري الغربي الهادف إلى استبدال اللغات الأجنبية باللغة الفصحى، وبالرغم من كل هذه المحاولات الهادفة إلى الحطِّ من لغتنا، فإن هذه اللغة قادرةٌ على التعبير عن الجوانب العلمية المختلفة، ودليلنا على ذلك، الحضارة التي شيدها العرب في عهدِ نهضتهم السالفة، والأسماء اللامعة التي لا نزال نرددها إلى اليوم مثل الخوارزمي وابن سينا والفارابي وابن الهيثم وأسماء أخرى عديدة(2).. مثال على ما نقول: الغرب ذكر اسم الخوارزمي حيث أورد اللوغاريتم.

ودليلنا الآخر، قدرة اللغة العربية على الاشتقاقِ، وتوافرها على قدرة عجيبة في استيعابها للجديد من المخترعات الحضارية في مختلف المجالات واللغات. ويشهد على ذلك علماءُ لا ينتمي بعضهم إلى أرضنا ولغتنا. فالدكتور شرباطوف (أكبر المستشرقين الروس) يقول: ولقد أظهرتِ اللغةُ العربيةُ قوتها في القرون الماضية، وتستطيع هذه اللغة اليوم بفضل ثراء أصلها التاريخي، ولِما اكتسبته من الظاهرة الجديدة مثل كثرةِ المصطلحاتِ العلمية والفنية الجديدة، أن تساير التطور في جميع مراحله ومجالاته.

وهذا ما يؤكده مجمع اللغة العربية في القاهرة تحت عنوان “اللغة العربية لغةٌ عالمية”، حيث جاء ما نصّهُ: “تساءل الناس منذ ربع قرن أو يزيد عن موقف العربية من اللغات العالمية الكبرى، فعدّها قومٌ واحدةً منها، وأنكر عليها أقوام آخرون. وسبق أن أثبتنا أنها كانت في الماضي ـ ولعدّة قرونٍ ـ اللغة الوحيدةُ للعلم والفلسفة في العالمِ بأسره (من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر الميلادي)، ثم انضمت إليها اللاتينية فأخذت منها واتجهت عن طريقها إلى كنوز الحضارات القديمة… وبرهنّا على أنها جديرةٌ بأن تستعيد مجدها، وليس في طبيعتها ما يعوقُ مطلقاً من دون أن تؤدي كلَّ متطلبات العلم والحضارة. ومنذ النصف الأخير من القرن الماضي أخذت تجدد نشاطها، وتتدارك ما فاتها، وحظيت أخيراً بانتاج وفير ومتنوع… وأقامت العربية الدليل على حيويتها وعلى قدرتها على البقاء ولم تجد الهيئات الدولية بداً من أن تعترف بها وتقدرها قدرها… وبقي هذا القرار لسنوات عديدة بين تأييدٍ ومعارضةٍ إلى أن أُخِذَ به في المدة الأخيرة، وأصبحت اللغة العربية في المؤتمرات والاجتماعات الدولية على قدم المساواة مع اللغات العالمية الكبرى”.

وقبل الختام أقول : علينا أن نحترم لغتنا وبذلك نحترم نفوسنا، وذواتنا، ونحقق هويتنا القومية العربية التي باتت حلماً في ظل هذا الاحتراب المفروض علينا والمرفوض منّا. وحريٌ بمثقفينا عدم إدخال الكلمات الأجنبية إلى اللغة العربية في التعليم وفي غيره، لأننا نحن الذين نضعُ لغتنا في المرتبة الأخيرة من اهتماماتنا… وعلى مستوى النقد الأدبي: أرانا معجبين بنظرية العوامل لغريماس مثلاً، وبنظرية فلاديمير روب وغيرهما، مع أننا قادرون على انتاج البديل الأفضل. يقولون لنا نحن صدّرنا لكم القصة والرواية متناسين أن في معاجمنا روى وقصّ وحكى.!

وفي الختام، أقول: إن الإعلام العربي اليوم في مازق كبير ، إن العرب هم من أوصلوا لغتهم العربية الفصحى التي هي لغة القرآن الكريم، والتي يحفظها الله على الدوام، إلى هذا المستوى من النسيان والإهمال، ويبقى: أن أرفع توصيةً إلى القائمين على التربية والتعليم من الصفوف الأولى إلى الجامعية، وهي: تعريب التعليم إعمالاً للنص الوارد في قانون الجامعات، حتى لا تظل جامعات الأمة العربية الجامعات الوحيدة في العالم التي تُدرِّس العلوم بلغة أجنبية، مع ضرورة العناية بتعلُّم لغة أجنبية أو أكثر. وبذلك تتوحد المناهج في الوطن العربي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

أثبت الهوامش “مدارك ثقافية”:

(1) غض الطرف : يحكى أن “عبيد الراعي” أو “راعي الإبل” (وهو من بني نمير) شاعر عاصر الشاعرين جرير والفرزدق، وكان حين يُسأل عنهما يقول إن الفرزدق أشعر الشاعرين، وقد التقاه جرير مرة ونهاه عن ذلك، لكنه لم ينته. ومرة ثانية طلب منه ألاّ يدخل بينه وبين الفرزدق، فاعتذر الراعي من جرير، إلاّ أن ابن الراعي الذي كان حاضراً، لم يرق له اعتذار أبيه لجرير، فبادر إلى شتم جرير، مما أغضب جرير لهذه الإهانة من ابن الراعي. وجلس في بيته قلقا أرقاً، ونظم قصيدة عرفت باسم “الدامغة”، وفي اليوم التالي ألقاها في “المربد” وهو مكان كان يلتقي فيه الشعراء في البصرة، وكان بين السامعين الراعي والفرزدق. وكانت القصيدة سبباً في تخلي بني النمير عن اسمهم، حتى أنه بعدها كانوا ينكرون أنهم من نمير، وينسبون نفسهم إلى جدهم عامر.

القصيدة من 97 بيت، نؤشر هنا إلى البيت المقصود في سطور البحث:

أعــــد الله للشعــراء منـــــــــي      صواعـق يخضعون لها الرقابا
أنا البازي المطل على نميـــــر      أتيح من السمـــــاء لها انصبابا
فلا صلى الإلــه علــــــى نمـير      ولا سقيت قبورهــــــم السحابا
ولو وزنت حلوم بني نميـــــر      على الميزان ما وزنت ذبـابــــا
فغض الطرف إنك من نميـــر      فلا كعبا بلغت ، ولا كـلابــــــا

(2) لعل الباحث هنا قصد من كتبوا باللغة العربية علومهم وليس جنسيتهم، لأن هذه الأسماء ليست عربية الجنسية باستثناء ابن الهيثم العربي:

* الخوارزمي هو أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي، من مدينة خوارزم الفارسية وتسمى “خيوا” في العصر الحالي، في جمهورية أوزبكستان وانتقل إلى  بغداد.

* ابن سينا، هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، ولد في قرية أفشنة بالقرب من بخارى وهي في أوزبكستان وتوفي في مدينة همدان في إيران اليوم.

* الفارابي، هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي، ولد في مدينة فاراب في تركستان.

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *