السبت 20 أبريل, 2024

زبائن الجاهلية الغربية..

زبائن الجاهلية الغربية..7 مشاهد عن العرب وما بعد الحداثة

جمال الجمل

(1)

gamalفي ثمانينيات القرن الماضي راج مصطلح «حرب النجوم» بعد تصاعد وتيرة الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي، حيث أعلن ريغان خطة خمسية للدفاع الإستراتيجي بموازنة سرية بلغت 26 مليار دولار، لكن الحديث عن الخطة شغل العالم كله، وتردد المصطلح على نطاق واسع، حتى أنه دخل بعد ذلك مجال ألعاب الكومبيوتر والأفلام السينمائية.

في تلك الفترة سألتُ المفكر واستاذ الفلسفة المصري فؤاد زكريا عن موقع العرب من «حرب النجوم»، فأجابني بواقعية صادمة: «على العرب أن يفكروا أولاً في مشكلة جمع القمامة من الشوارع، وتوفير الطحين في المخابز، والطعام في المجمعات الاستهلاكية، قبل ان يسألوا عن «حرب النجوم»، فهذه قضايا بعيدة تماماً عن واقعنا، والسؤال عنها يعبّر عن نوع من الاستلاب الثقافي، واستيراد مصطلحات لا علاقة لها بواقعنا الفكري والمعيشي».

نُشر الحوار على ما أذكر كاملا في مجلة «المنار» اللبنانية التي كان يصدرها المفكر القومي «معن بشور»، وغضب كثيرون في مصر من رأي الدكتور زكريا، واعتبروه استهانة بالعقل العربي، وسخرية مبطنة لمصلحة أميركا والغرب. حينذاك كانت المفارقة مثيرة لخيال شاب مثلي لديه نزعة نقدية راديكالية تجاه وضعية التخلف التي تعاني منها مجتمعاتنا، لكن شيئاً ما في داخلي لم يكن مستريحاً تماماً لذلك «البارادوكس»، وأعتقد الآن أن هذا الشيء يتعلق بالمنطقة الساخنة بين الفكر والواقع، وهي المنطقة التي أثارها في ذهني السؤال الآني عن «العرب وما بعد الحداثة؟»

(2)

من السهل أن تصادف آراءً كثيرة لكتاب عرب يسخرون من مناقشة مفهوم ما بعد الحداثة، ويعتبرون مجتمعاتنا بعيدة كل البعد عن هذه الأفكار والنظريات التي لم تتبلور بوضوح حتى في بلاد المنشأ (الغرب)، وشاعت آراء نمطية تقول باستخفاف إن العرب لم يستوعبوا بعد مرحلة الحداثة لكي ينتقلوا إلى ما بعدها، في حين تعامل آخرون باجتزاء وانتقاء، ولجأ غيرهم إلى مثال «تجاور الأزمنة» في المجتمع العربي الذي يجمع القرون الوسطى وأحدث صيحات التكنولوجيا المستوردة في مشهد واحد، وقد أشار أحدهم إلى صورة بائعة فجل تفترش أحد الأرصفة وهي تتحدث في هاتف جوال، وهي صورة مستوحاة من ملاحظة سجلها الراحل غالي شكري في كتابه عن معادلة النهضة والسقوط، حيث يتجاور في الشارع الواحد حوذي على عربة «كارو» يجرها حمار، مع سيدة عصرية أنيقة تقود سيارة مرسيدس.!

فكرة تجاور الأزمنة، نفسها، صارت قديمة من وجهة نظري، ولم يعد لها طعم «البارادوكس»، لأن المفارقات صارت مألوفة ومتعمدة في «مجتمعات الفرجة والاستعراض»، صار التجاور عادياً ومستحباً في المجتمعات التي تحولت إلى «ساحات للكرنفال»، لم يعد غريباً أن يضم «المول» كل شيء، وتجمع «بنيتون» كل الأجناس والألوان في إعلان واحد، لا يخبرك برسالة مؤكدة عن انتهاء التعصب والعنصرية في الواقع، لكن يكفي أن يخبرنا بذلك في صورة تعجبنا، وبعدها ستكون الصورة كافية جدا لنصدقها، ونكذب الواقع.

(3)

الانتماء إلى الصورة على حساب الواقع، لم يكن اختياراً حراً كما يتوهم جمهور الإعلانات و «فايسبوك»، لكنه نتيجة مستترة لهزيمة الواقع، وبالتحديد لواقع الحداثة الذي بشر بنعيم وفير لسكان الأرض بعد انتهاء سطوة الكنيسة والحكم الديني وبزوغ شمس الآلة في عصر العلم والصناعة والتجارة والتنوير العقلي الذي تعهد بمفاهيم ومواثيق عن «الإنسانية الجديدة» وما يحق لها من حرية ومساواة.

هزيمة الحداثة التي أعلنها فرانسوا ليوتار في منتصف السبعينيات لم تكن مفاجئة، فقد كانت هناك ملاحظات نقدية حذرت من مخاطر الحداثة، ومحاولة تقديم العلم كإله جديد، حيث انتقد ماركس ذلك، كما انتقده نيتشة وفرويد وهايدغر وفرقاء كثيرون، كان لكل منهم غرضه الأيديولوجي والفلسفي، بل ووريثه التنظيمي لشؤون الحياة ايضاً، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية كانت الشروخ قد قضت على سمعة الحداثة عند كثيرين، وارتفعت وتيرة النقد ليس في الفكر الفلسفي كما ظهر في كتابات فوكو وتولوز، ولكن في النظريات الأدبية والمدارس الفنية التي حملت مطرقة نيتشة ومضت تدمر باستهجان واستهزاء كل الأشكال المنتظمة، والروايات الرصينة والسرديات الكبرى، والقصص الواقعية، حتى أعلن جان بودرياد بوضوح قاطع «موت الواقع» واجتهد في تنصيب «الصورة» مكانه، ليس بوصفها استنساخاً من واقع ما، لكن باعتبارها هي «الواقع البديل».. باعتبارها «أصل» اصطنعه الإنسان بنفسه مثل إله من العجوة، يعرف أنه ساهم في تشكيله ومع ذلك لا يستنكف أن يعبده، ولكن بطقوس مزاجية أكثر فردية وأكثر حرية، من دون التزام بنصوص او مواعيد أو عهود.!

(4)

لم يقف بودريارد عند صيحة نيتشة عن «موت الإله»، لكنه دفن ذلك الإله القديم، وانتهك موروثاته وتعاليمه وسخر من فروضه، ووظف مكانه إلهاً آخر في خدمته.. إله أقل سطوة وأكثر طواعية، لا يتعالى ولا يهدد ولا يتوعد، وكانت هذه الخطوة أكبر انقلاب ذهني وسلوكي قام به العقل البشري منذ بدء الخليقة.!

(5)

أين العرب من كل هذا؟

هل شاركوا في الانقلاب على الإله؟

وماعلاقتهم بمؤامرة «ما بعد الحداثة؟

لن أقدّم إجابة، لأن «ما بعد الحداثة» ليس لديها أي إجابة لأي سؤال، وليس لها تعريف، ولا تملك نظرية، أنها ضد كل هذا، باختصار يمكن وصفها بأنها حالة من الكفر بالعلمانية.. إنها أشنع هجائية لكل ما أفرزته البشرية من ادّعاءات كاذبة للدين والعلم والملاحم البطولية والنظريات، إنها لا ترى في ذلك كله إلا مجموعة من الأوهام والخرافات الطوباوية التي فشلت في تقديم حلول دائمة لمشاكل البشرية.

ليس لدي إجابة، لكن لدي شهادة مدعومة بقراءات وخبرات من تجارب موازية حدثت في الغرب قبل نصف قرن تقريباً.

(6)

عصر الثلاثاء 25 يناير 2011 نزلتُ إلى ميدان التحرير (وسط القاهرة) في التظاهرات التي انتهت باعتصام قليل العدد، انقضَّت عليه قوات الشرطة ليلاً ونجحت في تفريقه بنوع من العنجهية البوليسية الغاشمة.

عند الفجر كنا على مقهى صغير نستمع إلى الحكايات الطريفة للهاربين من مطاردات الشرطة، كانت تبدو مثل «نكات» خارج أي سياق، أو اسكتشات كوميدية بلا رابط، أو «ملاعيب» تسعى لإظهار مغامرات فردية تشبه حكايات «على الزيبق» بلغة الشطار والعيارين.

في اليومين التاليين لم تختلف حكايات المعتقلين الذين تم الإفراج عنهم، حيث كان الحديث يغلب عليه سمة المرح و «القفشات» والألفاظ الجريئة والبذيئة أيضاً، كأنه حديث عن رحلة ترفيهية، ومشاكسات مع غرباء عابرين!

عصر الجمعة 28 يناير، تحول المشهد إلى ملحمة بطولية، تصدت فيها الصدور للرصاص، وارتفع الدخان في الميدان، وتصاعدت ألسنة اللهب، وتحولت التظاهرات إلى ثورة شعبية، فيما اختفت الشرطة من الميدان.

الإله الذي فرض مقاديره الثلاثاء فر هارباً الجمعة، وطوال أسبوعين بعد ذلك كنتُ أحمل الكاميرا ومسجلاً صغيراً، وأذهب إلى الميدان لتوثيق الحدث الكبير، يوم السبت التالي لجمعة الغضب، رأيت راؤول فانيجيم و «الحالمون» من طلاب وشباب أوروبا في ثورة 68، لقد جاء مايو في يناير، وصارت الحرية مطلباً فردياً يجاهر به شاب صغير في مواجهة دبابة السلطة، كان مثيراً أن تقرأ على آليات الجيش شعارات تطالب بسقوط القائد الأعلى، ومع ولادة «الكرنفال» في الميدان ظهرت تجليات «ما بعد الحداثة»، التهكم والسخرية من النظام يتفوق على اي خطاب أيديولوجي او ثقافي، الفردية تتمدد حتى صار لكل متظاهر شعاره الخاص وثورته الخاصة ايضاً، بدا أن الميدان مجرد ساحة للجوار وليس للحوار، تزايد الباعة الجائلون و «المتفرجون»، وتداخلت الهويات، وتشظت الجماعات إلى ذوات فردية كل منها يحمل لقب ثائر «أنا الثورة» في مواجهة الصيحة القديمة «أنا الدولة»، الوعي التاريخي والنظري يتراجع لحساب مصلحة فردية صغيرة، أو صورة في صحيفة أو «بوست» على موقع تواصل اجتماعي، الشائعات والمزايدات تنتشر بسرعة وحماس أكبر من المعلومات والحقائق، سقف المطالب يعلو ليس استناداً إلى واقع، ولكن إلى أغنية مؤثرة او شعار زاعق في ميكروفون، الرغبة في الانتهاك تتجاوز أي معايير تمسكت بها هذه الجماعة البشرية نفسها من قبل.

شعرتُ بنوع من القلق والدهشة الممزوجة بخوف غامض، فأنا لم أكن أعرف قبل هذا الاحتشاد الجماهيري في الميدان أن المصريين «شعب ما بعد حداثي»، لم أكن أعرف أننا من زبائن هذه الصيحة «الضبابية الاحتجاجية العابثة».. نستهلكها كما نستهلك الموبايل والأكلات السريعة وألعاب الكومبيوتر، وهذا لا يتطلب معرفة الفكرة او النظرية، بل ولا يتطلب حتى قراءة الكتالوغ.

(7)

أعتقد أن وصولي بفقرات المقال إلى رقم (7) يُعدّ نوعاً من الدفاع التلقائي عن السرديات القديمة في مواجهة القصاقيص والتفكك والاجتزاء، أعرف أن العرب بعيدون عن مفاهيم الحداثة وما بعدها وما بعد بعدها، لكنني أعرف أن الآخر يؤهلهم كزبائن لاستهلاك هذه المنتجات، وليس بالضرورة فهمها، لذلك تتفكك الأنساق والأخلاق والدول نفسها، ونحن لا نفهم كيف؟، نتعامل مع داعش باعتبارها «فيديو كليب»، ومع الحرب في سوريا كأنها «فيديو غيم»، نستهين بالواقع، ونسخر من كل شيء حتى التاريخ، ونعبد إلها جديداً نعيد به خلق العالم على هوانا اسمه «الفوتو شوب».

مرحباً بكم أيها العرب في جاهلية «ما بعد الحداثة»!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(كاتب مصري)

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-10-30 على الصفحة رقم 10 – السفير الثقافي

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *