الخميس 28 مارس, 2024

قراءة نقدية في قصة طفلي الذي لن يعود

قراءة نقدية في قصة “طفلي الذي لن يعود “للقاصة غزلان هاشمي

نصيرة مصابحية *

غزلان-هاشميطفلي الذي لن يعود ترنيمة لغوية عابثة تؤجج سؤال المصير عبر ثنائية الخفاء والتجلي  تشكيلة فنية تسامرالوجع عبر افق التلميح،   فالقارئ يقف مشدوها امام سلسلة من الاحداث التي تتوارى خلف رمزية رصينة واحالات مرنة ترصع ثنايا القصة ، فهي ترسم عالما  يقترب بملامحه الغير مالوفة الى بوح ذهني مستتر خلف اقنعة الرمز . انشطار الذات الكاتبة بين البوح والفلاش باك دعم موقفها الفني وساهم في سبك جدار المعنى فنجد الدلالات تتضافر لتشكل عالم النص القائم على الوصف المتحرك للمكان حيث تحول هذا الاخير الى موتيف فني ساهم في بلورة الاحداث من خلال لعبة المكاشفة ،فقد تأنسن المكان واصبح دالا في حد ذاته يحمل الكثير من التصورات وفي ارجاءه يحمل صيغة الماضي الذي لم ينته صيغة الماضي المفتوح على الزمن الحاضر .

والمكان في هذه القصة جاء مجردا  من ملامحه فلا شي يدل عليه ولاشي يوضحه ،فقط هو تصوير مكثف لاحداث لها علاقة بالغرفة ،هذه الغرفة التي تأزمت بها الكاتبة فأطلقت العنان لذكرياتها ،ارتجاج شعوري نلمحه بكل وضوح ساهم في في رسم الصورة الحاضرة الغائبة  لمعاناة كاتب حكم على ابداعه –على طفله – بالاعدام .

فالمكان اذن “جزء من تكوین الانسان ”1،بل قد یصبح المكان جزءاً من التجربة الذاتیة بعد ان یفقد صفاته الواقعیة ارتباطاً باللحظة النفسیة  التي تمر بها الشخصیة ، كما ان المكان يتخلى في بعض تجلياته  عن صفاته الحسية ليأخذ ملامح الحدث ويتشكل فيكون بحد ذاته ارتكازا لرؤيا الكاتب ،” فیضیق أو یتسع او ینهار” 2 ، ومما سبق فأن للمكان الوظیفة الاساس وهي لیست الوظیفة الدیكوریة والتأطیریة فحسب بل يتداخل مع العناصر السردیة الآخرى من حیث كونه بوتقة تنصهر فيه الاحداث وملامح الشخصية .

وبهذا یحتل المكان أهمیة كبیرة  بوصفه عنصرا  مهماً في البنیة السردیة ،اذا تحول الى بؤرة رمزية  تساهم في رصد الاحداث ودعمها وايضا  وصف الحالة الشعورية للشخصيات ، وهذا مانجده في هذه القصة ” هذه الغرفة المظلمة قد سكنتها المحاكمات طويلا….. وقد علقت عليها كل ضحاياك …..في مشانق من كلمات….. “  ، هذا الوصف المجازي للمكان تتخلله نقاط حذف وكأن الكاتبة تحاول اختصار الوجع في كلمة منزاحة ان تلتقط انفاس التفاصيل عبر رمز تتوارى معانيه مختبئة  ،تتحين فرصة التحرر مع كل قارئ . فاصبحت الغرفة هنا معادل موضعي ونفسي يرسم حالة التازم للشخصيات وهي:” الراوي والزوج وهدى وكذلك  الطفل ” ، اذا  فالمكان  یمثل “القاعدة المادیة الأولى التي ینهض علیها النص حدثاً وشخصیة وزمناً والشاشة المشهدیة العاكسة والمجسدة لحركته وفاعلیته”3.

تبدأ لحظة المكاشفة اللغوية من عنوان القصة ،”طفلي الذي لن يعود” ويعتبر هذا العنوان العتبة الفارقة التي من خلالها نلج الى عوالم النص ومكنونته، حيث مارس هذا العنوان اشعاعا دلاليا على الاحداث فصارت المواقف كلها تنسل منه فتحول الى بوتقة لغوية تنصهر فيها كل تحركات الكاتبة ، قد يظهر العنوان كوسيلة لتقييد المضمون هنا ،” رغم أنه لا يحكيه بل يعمل على حشده، وتكثيفه ليعمد فيما بعد و بوعي من الكاتب… إلى تبئير انتباه المتلقي على اعتبار أنه تسمية مصاحبة للعمل الأدبي والمؤشر الدال عليه” 4 ، فهذا العنوان تشكل من حدث يفضي الى حركة ساكنة صامتة  يجسدها الفعل” يعود” الذي سبق بحرف  لن الدالة على النفي ، فتشظى بذلك الزمن الى زمن قبلي متحرك وزمن بعدي ساكن .هذه الحركة الصامتة المتعدية  رسمت صورة عبثية استقرت عبر مسار الفاجعة التي ألمت بالكاتبة .

اثار العنوان جملة من التساؤلات اليقينية حول حقيقة الطفل ومفهوم العودة المنفية بحرف لن ؟هذه التساؤلات طعمت مبنى القصة وجعلت العنوان يمارس غوايته ،فالمتلقي في قراءته يسلك مسار الذهاب والاياب اي انه يقرا المحتوى في ظل ربطه بهذه العتبة ، خصوصا وان اللغة رمزية تجريدية ،تناوئ الواقع والوصف الفوتغرافي ..” سأستقبل ليلك الصيفي…و أفجّر عبره كلّ كلماتك التي سكنت آلامي…إنّه الحلم الممدد على سرير الانتظار…أستطيع تذكر صفحتك الأخيرة، حينما رحت أتصفح ذلك الزمن المعتقل في دائرة النسيان…غرّني الحرف الأخير…فلقنت بسماتي لعبة الانهزام…إنها الاحترافية التي ادعيتها مدة طويلة…أذكر تلك الأوراق التي كنت تضعها في ركن قصي من بيتنا الموجوع….عبرها إستطعت ان اسافر إلى متاهات الإنكسار …..هذه الغرفة المظلمة سكنتها المحاكمات طويلا…و قد علّقت عليها كلّ ضحاياك في مشانق من كلمات…بل أنّ الضحية الأولى هي أنت…ذلك اليوم حينما أحسست بحماس الحدس…اتبعت رائحة خطواتك…فوجدتّك معلقا…نظراتك تتوعد الأيام…خانتك الحياة فخنتني بالموت”5 .

هذه اللغة المنزاحة رسمت من خلال علاقتها بالعنوان مشهدا تراجيديا عبر تقنية التذكر او الفلاش باك ،  فتحولت الرمزية  هنا الى “أداة للتعبير بدعوى أن اللغة العادية عاجزة عن احتواء التجربة الشعورية، وإخراج ما في اللاشعور، وتوليد الأفكار الكثيرة في ذهن القارئ، فبالرمز تستطيع اللغة نقل هذه التجربة…فتلد، وتوحي، وتتناثر لآلؤها ووميضها في معان تتساقط على ذهن القارئ كالمطر، وقد يجعلون من الرمز “المعادل الموضوعي” الذي يمكن إسقاط التجربة الذاتية عليه”6.

فالجملة الاولى من القصة ابتدأت بفعل مضارع مسبوق بحرف الاستقبال” السين” فيصيرالمضارع مستقبلاً بعد احتماله للحال والاستقبال، “سأستقبل ليلك الصيفي…. ” وكأن الزمن هنا زمن مقتطع من ذكرى لازالت سارية في جسد الوقت تتاخم المستقبل من الزمن لكنها تسير وفق مسار ارتجاجي يحنط الماضي بداخله فتتكاثف المعاني لتجعلنا نعيش الزمنين بوقت واحد ، وقد دعم هذه الفكرة ذلك الرصد المغيب للمكان فالمكان كما اسلفت لم يوصف بشكله الدقيق وانما كان حاضرا كموتيف فني حمل ملامح الشخصية المغيبة” الطفل ” كما حمل ايضا ملامح الزمن الماضي والمستقبل .

كما نلاحظ ان الكاتبة قد وظفت الفضاء المغلق الذي يتمثل في الغرفة المظلمة وماتحمله من اسرار وذكريات والمحكمة على اعتبارها  المحطة الاخيرة لكل القرارات ،اما الفضاء المفتوح فهو الشارع والمقهى ،هذه المزاوجة جاءت مدعومة بقصدية التضاد حتى تجلعنا ننخرط في بناء المعنى العام لهذه الاحجية ،من المغلق الغرفة الى المفتوح الشارع المقهى ثم الى المحكمة المغلق ، فهذه الدورة التي تعيدنا الى نقطة البداية تجسد عبث المواقف ونقد وجودي صارخ لاحوال فكرية واجتماعية واقتصادية وفكرية وحضارية .

و الفضاء هــــو  ”الحیز الزمكاني التي تتمظهر فیه الشخصیات والأشیاء  متلبسة بالأحداث تبعاً لعوامل عدة تتصل بالرؤیة الفلسفیة وبنوعیة الجنس الأدبي وبحساسیة  الكاتب أو الــــروائي “7 ، خصوصا وان هذه القصة ترتكز على خلفية فكرية وسياسية وايديولوجيا مفاداها رفض تسييج حرية الكلمة ، وبهذا لا یرتبط الفضاء” بالزمان والمكان فحسب وانما یقیم صلات مع المكونات السردیة الأخرى منها علاقته بالأحداث والشخصیات وعلیه فإن بناء الفضاء  القصصي یرتبط بخطیة الأحداث السردیة ومن ثم یمكن القول أنّه المسار الذي یتبعه السرد”8 ليشكل الحدث العام للقصة .

كما اننا نلمس موقف الكاتبة الرافض لتقيد حرية الكلمة فهي تستنفر لغتها الساخطة لتنقد الوضع الراهن حيث تقول  :”التفت إلى بناية ضخمة أمامي، كان ذلك قصر العدالة فكرت أن أرقص على نغمات أصواتهم…فشدّ انتباهي أنّ طفلي مشنوقا هناك…ركضت ثم ركضت و ظلّ خالد يركض من ورائي و يحمل المناديل البيضاء يهدي كل من يمر واحدا ثم يدعوه إلى الرحيل…حاول أن يوقفني فما استطاع…وجدت نفسي أخيرا أمام قصر العدالة …فعرفت أن سبب مأساتي هو ذلك الطفل…طفلي معلق ينتشله الحرمان…يهديك الكون كلّ يوم لعنة الانتظار…دمّروا طفلي…و دمّروا أحلامي…طلبت من خالد أن يساعدني في فك خناقه…وجدت أنفاسا متقطعة…فتهلل وجهي…ما زال في طفلي بقايا حياة…حملته بين يدي و سرت به…كان الناس من حولي يعلقون راياتهم…و يعيدون المناديل إلى حظيرة النسيان…راعني الأمر و خفت على بقايا حياة طفلي…فلففته بأوراق كانت مبعثرة على طول الشارع…تحمل صورا لوجوه كاريكاتورية مختلفة…تأملتها طويلا حتى غاب وعي قلبي عن طفلي…حاولت أن أتجاهل الأمر…كانت الوجوه رغم اختلافها قد أنهت موتها بحياة واحدة هو طلقة من الرصاص استقرت في اللسان”9. هو وصف لحالة لراهن وصف دقيق يفتح ابواب الشك كما انه يفتح ابواب تعدد المعنى .فالطفل هو ذلك الكيان المتحرك هو بنات الافكار وخلجات الاقلام هذا الطفل الذي استبيح دمه في قصر العدالة وتحول الجمهور من حوله الى مصفق بارع يطالب بدمه ….هذا الطفل البؤرة الذي تشكل من رهبة ورغبة من قوة وضعف من محـــاولة تحــــرر صارخـــة وهــــروب جبان الى ركــــن الغرفة ، هــــنا تشكلت  الرؤیة الشمولیة و” هي النظر العام الذي یستطیع أن یرینا مجموع العناصر. ولكن المنظر العام یُرى من بعید ولا یمكن ان یظهر التفاصیل” 10 ، وهي طریقة” اشتمالیة كما عند ریكاردو اذ تقدم رؤیة  بانورامية للاحداث والشخصیات”11 .

    ….تعددت الاصوات وانبلج الموقف واضحا في اخر القصة عندما ختمتها بقولها “ان الموت منطق الاشياء “12 ، هنا تتظافر هذه الخاتمة مع العنوان ليتشكل النص على اساس انه ثيمة فنية مارست جدلية الخفاء والتجلي لاعبت ذهن القارئ وتكمن السؤال منه فلا يكاد يجد حلا نهائيا لهذه القصة الا بعد ان يقراها كاملة .

 الهوامش:

قصة طفلي الذي لن يعود للكاتبة غزلان هاشمي جامعة محمد الشريف مساعدية سوق اهراس

1-    یاسین النصیر، اشكالیة المكان في النص الأدبي، دار الشؤون الثقافیة العامة، ط ١

2-  بغداد،86 ١٩

3-  ابراهيم  جنداري: الفضاء الروائي عند جبرا ابراهيم جبرا ، دار الشؤون الثقافیة العامة، ط ١ ، بغداد،١ ٢٠٠

4-شعيب حليفي: النصوص الموازية في الرواية استراتيجية العنوان، ص 24

5-قصة طفلي الذي لن يعود :مرجع سابق

6 – نسيب نشاوي، مدخل إلى دراسة المدارس الأدبية في الشعر العربي المعاصر، الإتباعية- الرومانسية- الواقعية- الرمزية ، منشورات المطبوعات الجامعية، 1984، ص: 464.

7-منیب محمد البوریمي، الفضاء الروائي في الغربة: الإطار والدلالة، سلسلة كتاب الجیب، دار النشر المغربیة، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد1973

8-حسن بح ا روي: بنیة الشكل الروائي الفضاء، الزمن، الشخصیة، المركز الثقافي

العربي، ط ١، بیروت، الدار البیضاء،1990

9-طفلي الذي لن يعود :مرجع سابق

ــــــــــــ

* باحثة أكاديمية وأستاذة بجامعة محمد الشريف مساعدية بسوق أهراس / الجزائر

منقول عن موقع مجلة مسارب الالكترونية.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *