الجمعة 29 مارس, 2024

الصغيّر أولاد أحمد.. لا تتركاني مع الذئب وحدي

الصغيّر أولاد أحمد.. لا تتركاني مع الذئب وحدي

حسان حاجبي

ahmad-1لم يتمالك نفسه. كتب على جدار صفحته في الفايسبوك، «نساء ونصفُ كتبتُ، كتبتُ فلم يبْقَ حرْفُ، وصَفْتُ، وصفْتُ فلم يكْفِ وصف، أقولُ إذاً باختصارٍ وأمْضي نساءُ بلادي نساءٌ ونصفُ». هو شهر أوت (آب) 2015. شهر عيد النساء في تونس. وهو الشاعر الذي لا يفوته تفصيل من تفاصيل الوطن إلّا وكتب عنه، بحث في جزئياته ثم أخرجه عملاً فنياً يلتزم بقضايا الإنسان. قبل هذا الحدث بيوم شارك ضمن فعالية مؤتمر المثقفين ضد الإرهاب، تلا شعره على الحضور ثم عبّر عن موقفه كإنسان.

«عودة الى المستشفى العسكري بتونس لاستئناف العلاج، فرصةٌ لإتمام قصيدة» يكتب الصغير أولاد احمد الذي لم يكن المرض بالنسبة إليه إلا جزئيّة بسيطة في حياته ولم يكن المستشفى الاّ ملجأ الشاعر عن محيطه المليء ضجيجاً، يلجُها في استراحة محارب ليتأمّل ويكتب قصيدته الكاسرة للعزلة.

لا يقف الشاعر أولاد احمد أمام أطلاله لتتنزّل الذكرى منزلتها ولكنّه ليس كما عهده الجميع مجدداً وثائراً على بنية القصيدة فقط بل يقدّم نسيجاً يجمع الاثنين طلل الماضي وأمل الحاضر والمستقبل. يذكر المكان والتاريخ بدقة ويخبرنا ما يختلجه فيقول: «الطابق التاسع المستشفى العسكري، تونس 16 جوان 2015، قسم الأمراض الصدرية والحساسية، أحبُّ ثلاثًةً ماتوا: أبي والموتَ والشعرَ العظيمْ. أُجلُّ ثلاثةً عاشوا: الحياةَ وبنْتَها ومُضارعَ الأفعال في النحو القويمْ».

الشاعر روح البلد صباحاً مساء، ويوم الأحد، وإن حمل مواقفه السياسية وجهر بها، الكلّ منشغل بالتوعك الصحي الذي أصاب الصغير أولاد احمد من أعلى هرم السلطة السياسية الى كلّ الفاعلين في مجال الثقافة والاقتصاد والسياسة حتى الإنسان البسيط يكتب له كل يوم على جدار صفحته بالفايسبوك. لعلّ أولاد احمد يخبر الجميع في زمن احتدّ فيه الاستقطاب السياسي، عقب الحراك الثوري الذي شهدته تونس منذ أربع سنوات، أن المعرفة فوق الجميع وهو الذي لم يولد إلا عاشقاً لها، سعى باحثاً عنها من مدينة إلى أخرى، فعلى الرغم من صعوبة الواقع الاجتماعي في سبعينيات القرن الماضي، تنقّل من سيدي بوزيد، مدينة الثورة، بعد حصوله على شهادة ختم التعليم الابتدائي إلى مدينة «قفصة» ليكمل دراسته الثانوية، بعدها سافر الى تونس العاصمة ثم عاود الرجوع لمسقط رأسه، حيث حصل على البكالوريا ليكمل ترحاله بزيارة إلى فرنسا لدراسة اختصاص علم النفس ثم يعود لتونس لينتج قصائده وليؤسس «بيت الشعر» المؤسسة الأولى في العالم العربي.

أقيم في تونس منذ أسبوع مؤتمر المثقفين المناهض للإرهاب، لم يدع أولاد احمد الفرصة تمرّ من دون المشاركة متحديّاً المرض، ليعلن عن مبادئه الإنسانية الرافضة للعنصرية والإجرام والتمييز والإرهاب وليتلو ما تيسّر من شعره الإنساني. دقائق معدودة بعد أن أنهى مداخلته حتّى انهالت عليه التهاني واعتلت صفحته بالفايسبوك جمل من قبيل «أولاد أحمد الليلة في مؤتمر المثقفين ضد الإرهاب، رائع حتّى في استفزازك واستخفافك بالمرض، رفعت القبعة عالياً في شموخ فرد الحضور بوقفة إجلال وإكبار، كيف للنخبة التي اجتمعت الليلة في قصر المؤتمرات أن تكون نكبة في بلدها»؟

ملأ الدنيا وشغل الناس، تحرّكت أيادي الشعراء والروائيين من كلّ حدب، لتصطفّ وراءه في حربه ضد داء السرطان، يصفها الشاعر والأكاديمي الجزائري محمد أمين سعيدي بأنّها «حرب شديدة بلا هوادةٍ على جبهتيْنِ، الأولى ضدَّ وحوش الرّجعية التي تظلّ تخرج من رحم التاريخ والحاضر حاملة بذرة الظلام التي تروم القضاء على الحضارة، وتتقصّد الفتكَ بروح الاختلاف، والرجوعَ بالإنسان إلى شظف البداوة والتشدّد. والثانية ضدّ المرض، تحديداً ضدّ مرض السرطان الخبيث الذي اختار أنْ يستفيق في جسده النحيف دون أنْ يعلمَ أنَّ القصيدة لا يخيفها الألم ولا تقعدها المواجع». في قصيدة «تأكّد» يهمس إليه ويخبره الشاعر بحري العرفاي: «تأكَّدْ إذا مِتَّ قبلي سواءً شهيدًا سواءً فقيدًا فإني سأبكيكَ أكثرَ مما بكيتَ عليكَ وأعلنُ أنك أنت أخي في الترابِ وأنتَ شقيقُ البلدْ».

«ماذا أقول لك: قد لا تعلم أني احبك، وقد لا اقدّرُ، أنا نفسي، مقدارَ خجلي، فاعلمنَّ إذن: يا أخي الثاني كم أحبّك»، بهذه الجملة يختم الشاعر المنصف المزغنّي رسالة كتبها الى الشاعر الصغير أولاد أحمد ونشرها على أعمدة الصحافة التونسية. ليس من المستغرب أنّ تكون الهديّة هي الحبّ لشاعر أهدى مثيله للوطن في قصيدة أضحت أنشودة كل تونسي وسافرت الى خارج الحدود لتعانق كلّ الناس في المدارس وفي ساحات النضال السلمي والمدني وحتى في المسارح والمهرجانات، هي جملة ولدت شعرية لتكبر موسيقيّة، ساخرة من المرض الذي تعرّض له مؤخّراً، متكلّماً بلسان الجمع يقول «نحبّ البلاد كما لا يحب البلاد أحد، نحج إليها مع المغرّدين عند الصباح وبعد المساء ويوم الأحد».

المقاومة والصمود ثقافته والكتابة هي غايته ربما عملا بمقولة وُلد الإنسان يوم ولدت الكلمة، وهو شاعر البدايات وأمّا خواتيم الاشياء فلا تعنيه. وهو من قال: «قد أموت شهيدًا وقد لا أموت شهيدَا، هكذا قلت للصحفيِّ، وعدْتُ إلى البيت أكتبُ هذا القصيدَا». لم يكن خضوعه للعلاج نتيجة المرض الذي لحقه إلا مرحلة جديدة في حياته يتمرّد بها على أعداء الحياة ليغدو منتصراً دائماً. خاض حرباً على إشاعة موته وكتب في هدوئه المعهود وسخريته اللاّذعة: «يا لهم من مسلمين يؤمنون بأن الأعمار بيد الله ثم يجرّدونه من هذا الامتياز! أعتبر نبأ وفاتي، الكاذب، تهديداً صريحاً بالقتل».

من قصائده الأخيرة

المستشفى العسكري

تونس 12 جوان 2015

1

ـ «قد أموت شهيدًا

وقد لا أموت شهيدَا»:

هكذا قلت للصحفيِّ،

وعدْتُ إلى البيتِ

أكتبُ هذا القصيدَا

2

داخلَ المصعد الكهربائيّ قطٌّ،

يجاورُني منذ عام،

ـ «غداً نلتقي»: قالَ،

قلتُ:

ـ غدًا ليسَ يومًا أكيدَا

3

ها هيَ الكلماتُ،

والوقتُ أبْيضُ قان

تُشيّدُ للموت عُشّيْن:

عشاً حديثا

وعشّا جديدَا

4

أيها الطبُّ والربُ:

لا تَتركاني، مع الذئب، وحْدي

وإن شئتُما فدَعاني إلى وحْدتي

واحدًا ووحيدَا

 

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-08-18

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *