الثلاثاء 16 أبريل, 2024

 السيدة الجميلة

اشرف الخريبي

 

ashrf-1

فهمي عبده سرور..

إنسان منضغط، محشور في العالم، ثمين وفظ…

ذات عصر جاءني لاهثًا،

 زامت الدنيا وتكدر الهواء، تثاءب الليل وانزوى المتسكعين في قهوة أبو المعاطى…

 تجهم وجهه لحظة، لحظة قبل أن ينطق: أريدك حالًا.

ماذا تريد يا فهمي ؟

صمت الرجل صمته المخزي، تأفف، نفخ في وجهي، وسحب أنفاسًا وارتخي،

 رجل شهم آسيان، رأسه تُلًاعِبها مسبحة الأزمنة البعيدة والخرافات، تبقي حكايات جده الذي اندمل من شدة الحزن هي ملاذه الأخير،

قال: أن امرأة الفنجان أجمل من كل الكلام الذي قيل عنها،

 سألني مرة أن أشهد أنه هو –  نفسه  –  هو

وقعت على الأوراق. مكان الأسم والمهنة والعنوان وضمنته بضمان محل الإقامة

خرج مسرعا من باب قسم الشرطة في تلك الليلة البعيدة.

فهمي عبده سرور… إنسان مشروخ يقيم حواليه الفراغ تلال, يصلى الصلاة في أوقاتها. ويستغفر الله ويتوب، ثم يعود،  يدعو… يُحدثني عن سوء أخلاق الجيران، وأحوال الجيران والشتائم التي تقع كل ليلة من الجيران، ثم يهيم بعينين هائمتين، يستغفر الله في ورع  ويعزم النية والقلب على دوام حب الله والإخلاص،

 حين يخرج من صمته المُعتاد يلعن أبو إبراهيم الجزار وعاشور ساعي البريد، وإسماعيل بائع الجاز، يلعن المواصلات وسيفون بيته القديم…

 أبقيه أنا في جُعبة أفكاري الشاردة دوما، ربما رأيته، إنسان موجُوع بما يكفى، يسقط في الزحام كأحد الشهداء ومقاتلي الحروب العظمى،

 لكنه وفى أثناء مرور الحياة بشكلها الطبيعي أمام عينيه وبعد سطور قليلة من هذا البدء يقوم بمغامرة فريدة..

إذ أنه وفي أثناء مراسم الجنازة التي خرجت لتوها من الجامع الكبير،

 همس في أذني

–  أريدك حالًا

–   ماذا تريد يا فهمي ؟

– بخجل نظر إلىّ .. و احّمر…

 كانت البيوت تزوم زوم الكلاب في الحواري،  تدور عيناه الحمراوان الشاردتان في كل الأماكن،

 يده التي تقبض على أصابعي  بجزع،  أشرت عليه وهدأته وأقعدته لجواري

قال : اسمع 

ماذا هناك يا فهمي ؟

اعتدل ثم تكرمش واضعًا يديه بين قدميه ومال علىّ

–  قال… اسمع

–     نعم

كان المساء يقترب لما أرسلت إلىّ.. لم أذهب

 عادت وأرسلت، ولم أذهب ولكنها  ألحت،

 ترددت أول الأمر – غير أنى ………..  فذهبت

رأيتها واقفة …هي نفسها تضحك ضحكة صافية تدخل القلب 

 ظل الهواء يخبط الأبواب يغلق النوافذ، الدنيا كانت برد،

 الخلق في بيوتهم كانوا يغطون في نوم عميق، الغيم في منتصف السماء،

 رأيتها.. نعم رأيتها ، كانت ليلة باردة بلا قمر ولا نجوم،

 في بيتي العفن كنت بلا ضحكة ولا ونيس،

  أجلس وجلدي المتكرمش على سريري وحدنا ، ولم أنم،  ولم أذهب،  حاصرتني ابتسامتها \ كانت ابتسامة طويلة ممطوطة، تخلع القلب،  كلما تذكرتها ترن في إذني،

 لما لجواري أسندت رأسها. يدها  جسدها ..و.. نظرت إليً بعينين هائمتين

أبو إسماعيل نادى على الصلاة ولم أذهب.

هي أرسلت إلىّ ولم أذهب،

الجيران يتشاجرون ولم أذهب،

 كزوم الكلاب تزوم البيوت وتهز ذيلها، المساء يغوص في العتمة، الدنيا كانت برد،

  نعم رأيتها .. وأنفاسها حارقة ودافئة، ورائحتها شهية،

 رهبة ودفئ أحسسته يختلط بطين شوارع البلد ..

كانت تصرخ في أنحائي وشعرها يتهدل أمامي، شفتاها وحزني يتحدان، يسكن قلبي ملئ يديها، والحبة في صدرها انتفخت وبانت، عيونها احًمرت وسالت وجعًا، حروفها تطلع آهة لاذعة، ملابسها شبه عارية، وهي واقفة أمامي،

–        أنا لم اذهب 

غير أنى ..أسفل زواياها وقعت…

تحت إبطها أذوب واحدا أخر …

من تحت شباكها مضيت، طرحت نفسي أرضا وجوا، وماء وسماء

تعلقت فوق المواسير، صعدت نحو شباكها، 

كأن البلد رأتني، 

كنت أقفز من عندها، غير أني اعتدلت في مشيتي وضعت رأسي في الأرض ومشيت،

وكذبت على نفسي، فأنا لم اذهب،

سمعت صوت الصلاة …ولم أذهب،

  أخذني الدفء والوجع والظلال والمساء والدنيا كانت برد،

كنت أقذفني من عليها، من فوق شباكها العالي قفزت في الشارع

أنا لم أذهب،

فقط كنت أسيل إليها، أزحف كزحف الخطى في الممرات، كزحف صوتها في أعماقي

 فهل ترى ؟

كما قلت لك،  لم اذهب،  رأيتني عندها فقط،

 نعم كنت عندها وحدي

 فهل تري ؟

ثلاثة أيام و ذهني شارد ولم أذق النوم ولا الأكل، ولا شئ،

 المرأة كانت فرحانة وقالت لي بفرح:  يا فهمي تعالى

 كنا بمفردنا في حجرة ضيقة ولم أر في عمري لحم هائج ، أعترف أنى أردتها نعم أوقفني صوت الأذان ،لكنى أكملت الأنفاس العرق ، واللهاث، والبكاء

قفزت في الليل التالي اليقظ، تذكرت عرى فخذها… هربت،  عرفت لون عيونها،   جريت . سمعت صوت ضحكتها الممطوطة الطويلة فمشيت ،

رحت للجامع الكبير وصليت الفجر ولكني لم أنم،

ثلاثة أيام لا يفارقني وجهها وحروفها تخرج لاذعة جارحة

 و الدنيا كانت برد. وأنا لم أذهب،

أنا فهمي عبده سرور

………………………………….

  ” ملاحظة

المحزن أنه وبعد أيام قليلة مرت وهو يقاوم عدم النوم وولعه الشديد وهيامه المستمر ….

وعند شباك السيدة الجميلة رأيته، يحاول التسلق للنافذة مُستخدما المواسير

 وعندما رأنى…

قال بخجلِ : أريدك حالًا

ماذا تريد يا فهمي ؟    

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *