السبت 20 أبريل, 2024

صلاح بوسريف: لا جيلَ يحل مكان جيل آخر

صلاح بوسريف: لا جيلَ يحل مكان جيل آخر

عبد الرحيم الخصار

bo srafمنذ الثمانينيات وصلاح بوسريف منشغل بالشعر العربي كتابةً ونقدا وتنظيرا، يحمل دكتوراه الدولة في الآداب، تخصص في الشعر العربي المعاصر، ويحمل معها همّ الشعر المغربي، فتجده من أكثر الكتّاب إصغاءً لحركة الشعر في هذا البلد وتتبعا لمسارها. بالمقابل يعتبر بوسريف اليوم أحد أهمّ كتّاب الرأي في الثقافة المغربية، لا يتورع في مقالاته اليومية في انتقاد مؤسسة أو ظاهرة.

من أعماله الشعرية: فاكهة الليل، شجر النوم، حامل المرآة، شرفة يتيمة. ومن أعماله النقدية: رهانات الحداثة، المغايرة والاختلاف في الشعر المغربي المعاصر، فخاخ المعنى، مضايق الكتابة، نداء الشعر، حداثة الكتابة، وغيرها.

في هذا الحوار يشرّح صلاح بوسريف جسد القصيدة المغربية، ويتحدث عن راهن الكتابة الشعرية، عن أضوائها، وعن ظلامها أيضا.

* يبدو أن القصيدة المغربية تعاني من ظلم مزدوج، أولا من لدن النقاد العرب الذين غالبا ما يركّزون ـ إذا ما ركزوا ـ في تناولهم النقدي على الأشجار القليلة التي تخفي الغابة. وتاليا من لدن النقاد المغاربة أنفسهم الذين يبدو أنهم غير معنيين بما يقع على الأراضي الشعرية المتنوعة في هذا البلد. بالمقابل تجد معظمهم يواكب نقديا الأسماء العربية المعروفة التي أنهكها النقد. كيف تقرأ الأمر؟

ـ هناك تاريخ لم نخرج منه بعد، كان فيه المشرق مرجع المغاربة الوحيد، وهو تاريخ لم يعد يعمل إلاَّ في خيال بعض هؤلاء ممن لا يريدون النظر في المرآة بوضوح‫. الأمر لا يتعلق بتجاهُل المغاربة فقط، بل وبتجاهُل الشعراء المشارقة، أنفسهم، من الأجيال التي جاءت بعد «الرواد»‫. انظر الكتابات النقدية التي تصدر عن الشِّعر، فهي محصورة، كما أشرتُ قبل، في نفس الأسماء، وفي نفس الجيل، مع بعض الإضافات الطفيفة، والتنويعات التي لا تفيد في توسيع المشهد الشِّعري، ومعرفة ما جرى فيه متغيِّرات‫. كتابان لجابر عصفور، صدرا متزامنين تقريباً‫، عن الشِّعر، لم يخرجا عن هذه القاعدة، وكأن الشِّعر العربي المعاصر هو ما كتبه هؤلاء، ومن أتَوْا بعدهم لم يقولوا شيئاً، بمن فيهم من كتبوا «قصيدة النثر»‫.

فلماذا، في واقع كهذا نتساءل عن اهتمام النقد بالشِّعر المغربي، الذي لا يهتم به النقاد المغاربة أنفسهم، الذين اختاروا الكتابة عن المشارقة، لأسباب لا علاقة لها بأهمية الأعمال التي كتبوا عنها‫. فهم استعملوا الشرق كذريعة للنشر، والشُّهرة، والسفر، وهذا ما أسميه بنقد العلاقات العامة، الذي لا يمكنه أن ينتج معرفة حقيقية عن الشِّعر، لأنه نقد مجاملات، وهو نقد فاسد بالضرورة، لأنه يُزَوِّر معرفتنا بالشِّعر، ويزيد في تعتيم الصورة أكثر‫.

مشارقة ومغاربة

* هل يتعلق الأمر إذن بوضع مستمر، أم أن تغييرات ما قد وقعت؟

ـ لا ينبغي أن ننسى ما حصل من وضوح، نسبي، في الرؤية لدى المشارقة، نحو الشِّعر والثقافة المغربيين‫، بسبب وسائل التواصل الحديثة التي فتحت نوافذ المعرفة على مصراعيها. فاليوم، بدأ الشرق يطلع على ما يكتبه المغاربة، وبدأت تظهر معالم طُرُق أخرى جديدة، وهذا ما نجده في اهتمام دور النشر والمجلات والجرائد، بالإبداعات والكتابات المغربية‫. ثم إنَّ المغرب، ليس فيه نُقَّاد شعر، الشُّعراء، كانوا، دائماً، هم من يتولَّوْن هذه المهمة، وهذه حقيقة تعرفها، ويعرفها الجميع‫. الذين أتَوْا من الجامعة ليكتبوا عن الشِّعر، بقوا خارج النص، تشغلهم النظريات، وتُنْهِكُهُم ترجمة ونقل المفاهيم، وحين يصلون إلى النص، يجدونه أكبر مما تَوَقَّعُوه‫. وهذا موجود في أطاريح هؤلاء، وهي لم تُضِف شيئاً للشِّعر، بل عمَّقت الهوّة بينه وبين القارئ.

اليوم نحن في حاجة لنقد يشتغل على الشِّعر العربي، وضمنه الشِّعر المغربي، في سياقاته الجمالية والمعرفية، وما يمكنه أن يكون أضافَهُ من قِيَم، كما يذهب‫. وهذا عمل يحتاج لوقتٍ وصبر، ولأشخاص ينتصرون للنصوص، من دون غيرها من الاعتبارات التي كانت تأتي من خارج النص‫.

* شاع نقاش في الفترة الأخيرة حول مدى جدية القصيدة المغربية، الأمر يتعلق بحكم قيمة شمولي يجعل ما يكتب راهنا غير ذي شأن قياسا مع ما سبق. هذه المقارنة الزمنية بين ما أنتجه رواد الحداثة في المغرب منذ منتصف القرن الماضي وبين ما يكتب الآن. هل هي مقارنة مشروعة؟ هل قطعت القصيدة المغربية مراحل انتقالية حقيقية. أما أن السابقين فعلا لم يتركوا شيئا للاّحقين؟

ـ أنت تعود بي هنا، إلى ما كان قاله سعدي يوسف عن الشِّعر المغربي المعاصر الذي اعتبره خارج الشِّعر، أي كلام لا طائل من ورائه في تعليق له على الفايسبوك‫. أولاً، كلامُه غير دقيق لأنه لا يعرف الشِّعر المغربي في كثير من تفاصيله، ومن خلال التراكمات التي تجري في هذا الشِّعر‫. قد يكون قرأ بعض الأشياء لكنها تبقى ناقصة‫. فالمعرفة بشعر بَلَدٍ ما تفرض قراءة مُدوَّنَتِه الشِّعرية كاملة، واختبارها في ضوء مفاهيم، وقراءات، يمكنها أن تضع يد الباحث على خصوصيات هذا الشِّعر، أي النص، وما يمكن أن يتميَّز به عن التجارب العربية الأخرى. أمَّا الحُكْم بمنطق، وبحجة سعدي يوسف، هذا أمر لم يعد مقبولاً، لأنه حكم قيمة، وهو يقوم على القراءة بالمُفاضَلَة، وهذا ما كان قام به النُّقاد القُدامى، الذي قسَّموا الشِّعر إلى أزمنة، والشُّعراء إلى طبقات. لم يكن النص هو المرجع، بل الانتماء الزمني للجاهلية، وهذا نقد سلفي.

فهذا هو نفسه الرأي الماضوي الذي يرى، دائماً، أن السابق لم يترك لِلاَّحِق شيئاً، وأنَّ ما كانَ أبْدَع مما هو موجود. وهو كلام لا يصمد أمام الواقع، أعني النص، باعتباره هو الأرض التي فيها نُجْرِي اختباراتنا‫، لنصف ما يجري في هذا النص، دون وضع معايير بها نحكم على نصوص، اختارت لنفسها سياقات جمالية ومعرفية، هي غير ما يُريده سعدي، وما تأسَّسَت عليه معرفته الشِّعرية، وفهمه الجمالي للشِّعر، وغير سعدي ممن ما زالوا لم يخرجو من الماء القديم للشِّعر، رغم ما يُمَثِّلونَه من حضور في الشّعرية العربية المعاصرة‫.

كل جيل له رؤيتُه، وله اختياراته الجمالية والمعرفية، وهذا ما يجعل من الشِّعر اليوم، وفق ما ذهبتُ له في أكثر من عمل، هو غير القصيدة التي لم تعد، كمفهوم نظري، وكممارسة كتابية، قابلة لوضع الشِّعر في تركيباته وتعقيداته التي انتقلتْ به من الشَّفاهَة إلى الكتابة، وأصبح الدَّال المكتوب في النص، هو بين الدَّوالّ التي لا يمكن تفاديها في قراءة الشِّعر، باعتبار ما يُمَثِّلُه هذا الدَّال من إضافات، وهو بين ما يخرج بالشِّعر من وعيه الشَّفاهي المُتَحَدِّر من القصيدة، التي ينتصر فيها الصوت على الخط‫.

اليوم، عند عدد مهم من الشُّعراء العرب، ممن جاؤوا بعد الرواد، وممن لم ينتبه لهم النقد جيداً، أصبح الدَّال المكتوب، هو بين الدوال التي تتأسَّس عليها تجاربهم، ناهيك عن الانشراحات التي أحدثها هؤلاء في تجاربهم، في علاقة الشِّعر بغيره من الأجناس التعبيرية الأخرى‫. وقد أذكر بين هؤلاء، سليم بركات، وعباس بيضون، وعبد المنعم رمضان، ومحمد بنطلحة، وعبد الله زريقة، وقاسم حداد، ورفعت سلام، وغيرهم‫، ممن كتبوا نصوصاً اسْتَعْصَت على قارئها، لا لشيء، إلا لكونها خرجت بالشِّعر من دواله القديمة، وفتحت الصفحة على الدَّال المُتَعَدِّد الكثير، بما في ذلك ما أجْرَوْه من اختراقات في إيقاع الشِّعر، وفي اللغة الشِّعرية، التي لم يعد التعبير «النثري» فيها هو نقيض التعبير، أو العبارة «الشِّعرية».

نفس هذا حدث في الشِّعر المغربي، الذي لا يزال غير مقروء، بما يكفي، عند أصدقائنا المشارقة، فأغلب النصوص التي تُنْشَر في المغرب لا تصل لبيروت، ولا للقاهرة، ولا لعواصم عربية أخرى، وما يصل قليل، وحتى ما يحصل عليه بعض الشُّعراء، عبر بريدهم الشخصي، يبقى غير كاف للحكم على قيمة هذا الشِّعر‫.

ولعل من الأمور التي نسقط فيها، من دون وعي منا، أو في غفلة من المعرفة الشِّعرية، هو ما نقوم به من مقارنات، بين التجارب والنصوص، فهذا غير مقبول في الشِّعر الذي يقصد لخرق القاعدة، وخرق المعيار. مثلاً، هل يمكن أن نقارن شعر أنسي الحاج، بشعر الماغوط؟ هذا غير ممكن، وغير صحيح، وهو ما ينطبق على تجربة سعدي يوسف نفسها، قياساً بتجربة حسب الشيخ جعفر‫.

الشِّعر المغربي اليوم، وبداية من الثمانينيات، تحديداً، لم يعد هو نفسه الشِّعر الذي يكتبه عبد الكريم الطبال، و محمد بنيس، ومحمد الأشعري، أو أحمد بلبداوي، هؤلاء لم يجرؤوا على توسيع إيقاهع النص، الذي حصروه في التفعيلة، وكانت نظرتهم لقصيدة النثر فيها شيء من الازدراء، مع الثمانينيين، حدث توسيع هذا الدَّال، الذي لم يعد فيه للوزن هيمنة وحضوراً كبيرين، بل أصبحت اللغة تفرض على النص تموُّجاتها، وتستولد تجاورات، هي ما يمنح الشِّعر مفهومه الإيقاعي الأوسع. ولعل خلل الشِّعرية المعاصرة، كان هو هذه الصفة المعيارية التي أعطتها للإيقاع، واعتبرته الدال الأكبر، انظر لصفة الأكبر، بما تحمله في طياتها من تعالٍ، ورؤية ميتافيزيقية لا تليق بالشِّعر بتاتاً‫.

الشِّعر المغربي اليوم، هو فسيفساء تجارب، لم تجد بعد من يقرأها، لا باعتبار معيار ما، بل باعتبار القيمة الشِّعرية التي ينطوي عليها، وباعتبار ما يُضيفه النص من دوال، أعني القيم المضافة التي تُساعِد على الصيرورة، ولانتقال، لا على التقليد والاستعادة والاجترار‫.

لا جيل يقود تجارب جيل آخر، ولا جيل يحل مكان جيل آخر، كل جيل هو إضافة، وهو طريق، أو بعضُ طريقٍ‫، والصيرورة، بما تقوم عليه من تمايز واختلاف، هي الأساس، في هذه العلاقة، وليس التبعية، أو نفي جيل لآخر، واستبعاده.

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 18/9/2015 على الصفحة رقم 9 – السفير الثقافي

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *