الجمعة 19 أبريل, 2024

بين أسطورة الذات والخطاب الشعري

بين أسطورة الذات والخطاب الشعري

أنطوان ابو زيد

abo zaedربما بدا من البديهيات الربط بين الشعر، وههنا الشعر العربي، وبين الجنس بمختلف مظاهره وأشكاله ومضامينه، باعتبار أنّ الأخير، أي الشعر، حافل بالكثير الكثير، منذ امرئ القيس ومروراً بأبي نواس، وبشّار بن برد، ووصولاً الى التراث الشعري الحديث والمعاصر الذي يفترض أن يكون خازنًا قدراً من الإشارات الجنسية أكثر بكثير مما احتواه التراث الشعري القديم، لتقادم الزمن، ولمواكبة الشعر تحوّلات في الذائقة الأدبية ولاتّصال الشعراء العرب، عبر المثاقفة والتعلّم والترجمة، بالشعر الأجنبي، ولا سيما بداية القرن العشرين حتى بداية القرن الحادي والعشرين.

بيد أنّ المسألة لا تكمن في الربط الشكليّ، بين الشعر العربي وبين الجنس الذي يعدّ أحد تجليات التجربة الشعرية. فالسؤال الذي ينبغي لنا صوغه، في هذا الشأن، وهو: ما وظيفة الجنس، بل ما وظائفه، في الشعر العربي؟ وكيف ينظر الناقد والقارئ الى الجنس، في الشعر العربي، هذا إذا ما توفّر منهجٌ للنظر الى جانب من التجربة الشعرية والأنطولوجية؟

للإجابة عن السؤال الأول نحيل على عباس محمود العقاد الذي تناول بالدراسة أبو نواس (العقاد، ع.م.، أبو نواس، الحسن بن هانئ، 1968) دراسة نفسانية، مهّد فيها بتعريف النرجسية على ضوء علم النفس، ومضى يثبت هذه النرجسية بالاستناد الى أبيات مستلّة من ديوانه الشعري، ويبيّن ثبوت ظاهرتي التشخيص، على ذاته المريضة التي (Identification, Exhibitionnisme, Regression) والاستعراضية والنكوص تجد تعليلها في طفولة النواسي التي بعدت ان تكون طبيعية أو سويّة.

ولئن كان استخلاص الناقد العقّاد متسامحاً بعض الشيء، في أنه لم ينزل الأوصاف المانعة والتكفيرية – بلغة بعض الناس في زمننا – بالشاعر أبي نواس، وفي أنه لفت الى فنّه وإبداعه (ص. 154-164)، فإنه لم ينكر كونه «ماجناً» وأن «الآفة عنده إنما هي آفة الضعف والشعور المغلوب وليست آفة الشرّ والأذى» (ص. 204).

لقد كانت دراسة العقاد نموذجاً في تعامل النقد الأدبي، المتّكئ على علم النفس الفرويدي، مع نتاج أبي نوّاس الشعري، بل بعض هذا النتاج. ولا عجب في أن يتحوّل موضوع النقد، من الشعر الى الشخص، ومن بعض الأبيات المستلّة من ديوانه الشعري المصرّح تعميمه على القرّاء – من دون النصوص المحرّمة من تحقيق جمال جمعة (1994)، رياض نجيب الريس – والتي لا تأتي على ذكر موضوع الجنس إلاّ من قبيل التأكيد على التوصيف النفساني العلمي الذي كان الناقد العقاد استلهمه، في مستهلّ الكتاب للمنحرف وغيرهم (ص.63 (Freud, Adler, Rank, Horney) الجنسي، بحسب فرويد ويونغ وأدلر ورانك وهورني).

إنّ ما يمكن استخلاصه من العيّنة النقدية التي تناولت أبا نوّاس يفيد في اعتبار وجود الجنس، في نتاج شاعر عربي، دليلاً إما على صحّته النفسية أو مرضه وانحرافه. وبالتالي فإنّ وظيفة الجنس المفترضة، من زاوية النقد التحليي – النفسي هذه، والماثل في النصوص الشعرية هي «تعقّل العمل الفنّي بمصطلحات الصحة والمرض، والسّواء والشذوذ، مع أنّ مثل هذه المصطلحات لا تعود صالحة للعمل في حالة الفنان» (جورج طرابيشي، الروائي وبطله، 1995، ص. 9).

وبناء عليه، نعتقد أنه من اللازم أن نهيّئ نِظرة نقدية الى الأدب بعامة، والشعر بخاصة، تتجاوز محدودية الإسقاطات شبه الموضوعية، والتي ترى الى الشعر العربي، والجنس مظهراً بل جانباً متضايفاً مع وجود ذات الشاعر ومعبّراً عنها، على أنه مجرّد وثيقة دالّة على شخصية الشاعر ومجتمعه وتاريخه وثقافته، من دون أعماله الشعرية ولغته وأساليبه. ومن الاتجاهات النقدية التي تجنّب الميل الى الإسقاط الآنف، ما في أنّ النص الشعري نفسه كفيلٌ بالكشف عن سلسلة من (Charles Mauron) خلص اليه شارل موران التداعيات المترابطة برابط أسلوبي، أو بياني، أو بصوَر ذات إيحاء جنسي مباشر أو غير مباشر. ولئن كان ذلك يتمّ على نحو لا واع، فإنّ الشاعر يقصد بذلك كله، أي بالتداعيات المترابطة، أن يصوغ منها (Des figures obsedantes au mythe personnel) أسطورته الشخصية وبهذا المعنى يصير جائزاً التساؤل عن مكانة الجنس في شعر امرئ القيس، وعن البعد التداولي فيه. مثلما يصير جائزاً التساؤل عن وظيفة الجنس في الشعر الإباحي: أتكون وظيفته إثبات فحولة أم إقراراً باكتمال فعل الحب («إذا أخذتها هزّة الرّوْع أمسكتْ بمنكبِ مقدامٍ على الهوْلِ أروَعا ..»- أمرؤ القيس)؟ أم يكون الجنس علامة دالّة على التمايز الحادّ الحاصل، في ما بعد، بين نمط الحياة البدوي وبين النمط الحضاري المديني الآخذ في التجذّر إبان العهدين الإسلامي والعباسي؟ بيد أنّ السؤال الأهم – ما دمنا في هذه العجالة لا نطمح سوى الى طرح الأسئلة لا الإجابة عنها – لماذا بات الجنس، مع أبي نواس وبشار بن برد ومطيع بن أياس مباشراً وحاضراً بهذه القوة «متجاوزين (به) الثنائية بين الذات والكون ..» (أدونيس، الثابت والمتحوّل، الكتاب الثاني، ص.111)؟ وهلّ ثمة أصل للخطاب الشعري، كامن في مركز آخر، كان يمدّهم بشرعية القول الجنسي، أو هل كان ثمة ما يدعوه بيار زيمّا لهجٌ اجتماعيّ معيّن يصدرون عنه، ويستمدّون منه هذه الجرأة في الفعل (الجنسي) والكتابة عنه وإعلانه في آن معاً. ولكن، لمَ صار الجنسُ موضوعاً خلافياً، في العصر العباسي الثاني، في حين أنه كان لوناً تعبيرياً تلقائياً في الحياة الجاهلية، والشعر الجاهلي؟ ولمَ عاد الكلام على الجنس، في الشعر العربي، إبان العصر العباسي الثالث، وصولا الى عصر الانحطاط، نادرا أو خافتا الى أبعد حدّ؟

الفارياق

حتى إذا أزفّت النهضة وجدتَ شاعراً في أوائل القرن التاسع عشر يطلق الجنس من عقاله ثانية، عنيتُ به أحمد فارس الشدياق، («كان لم يخزْ بين ذينك جمعٌ كأنّك ناكحٌ أختين تَترى») في كتاب له بعنوان «الساق على السّاق في ما هو الفارياق» ( ص. 589). ولكن هل تفرّدَ الشدياق الخارج لتوّه على الإكليروس الماروني – بسبب موت أخيه أسعد لإيثاره البروتستانتية على طائفته – في انفلاته الجنسي «شعراً»؟ ولمَ لم يجارهِ، في جرأته أو علانيته الجنسية شاعر من شعراء النهضة الأولى بعده، أمثال خليل الخوري أو نقولا الترك، أو سليمان الصولة أو عمر بن سالم قبادو أو ناصيف اليازجي، او نجيب الحداد وغيرهم؟ (شربل داغر 2012، الشعر العربي الحديث، القصيدة العصرية، ص. 248-257)

أيكون إدراكه الباطنُ أنه، بكلامه الجنسيّ الصريح في شعره، يصالح بين ذاته المتمرّدة وبين شِعره، ويضع الحجر الأساس لحركة النهضة الأدبية الحديثة؟ وبالمقابل، يمكن التساؤل، في هذا الشأن النهضوي عن الداعي الى تعفف لغة كتّاب النهضة الثانية وشعرائها (جبران، نعيمة، أبو ماضي، رشيد أيوب، ندرة حداد، نسيب عريضة)، رغم «تمرّدهم على طقوس الكنيسة المسيحية وغيرها من طقوس العبادة في الأديان الأخرى» (السرّاج، نادرة، بلا تاريخ، ص.335)؟

ولئلا يُظن أننا نعفّ عن الشعر الحديث والمعاصر، في مسألة التصريح بالجنس، نسأل أيضاً وأيضاً: لماذا انحسر الإيحاء الجنسي في أغلب الشعر العربي الحديث، ما عدا نزار قبّاني؟ وماذا كانت وظائف الإيحاء الجنسي في شعر قباني، ذي البنية التقليدية بالأساس؟ وهل للمدّ الالتزامي السياسي والفلسفي دور في تغييب الجنس وكلامه من متن الشعر العربي السالف وصفه؟ ثمّ هل ترافقت ثورة القصيدة بالنثر مع تحرير الخطاب الشعري من المحظورات، بداية الخمسينيات من القرن الماضي؟ وهل تابعت القصائد بالنثر هذا المسار التحريري، والى أي مدى؟ بالطبع، إنّ هذه التساؤلات إن هي إلا دعوات للمزيد من التأمل في صنيع الشعر وفي نسغه ونسيجه، وفي النّظرة إليه في آن معاً. ولعلها مفيدة لأنفسنا في المقام الأول.

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 18/9/2015 على الصفحة رقم 10 – السفير الثقافي

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *