الجمعة 19 أبريل, 2024

رواية تليفونيّة: رنين وهاتف في التجريب الروائي

رواية تليفونيّة: رنين وهاتف في التجريب الروائي

منصف الوهايبي*

aa20الانطباع الذي خرجت به حالما أنهيت قراءة «إسكندرونة» لفضل مخدّر (ديوان الكتاب ـ توزيع بيسان ـ بيروت ط. أولى 2012) 10001375_10202803281962620_4261344088543977355_nأنّ هذا النصّ الروائيّ هو أقرب ما يكون إلى نمط من الأدب الروائي «الملحمي» بالمعنى الواسع للكلمة؛ وأنا أشير في هذا السّياق إلى لوكاتش في «نظريّة الرّواية» إذْ يقدّر أنّ هناك شكلا جديدا للملحمة يعلن عن نفسه في بعض أعمال دوستويفسكي.

فهذا النصّ يغطّي زمنيّة مطوّلة ويشتمل على شخصيّات عديدة، ولكنّ السارد يكتفي بوضع عدد محدود من الشّخصيّات في الصّدارة، على أساس دورها الأساسيّ والمفصليّ في مجريات القصّة مثل رنين وهاتف. وهو يحرص على إبراز فرديّة كلّ شخصيّة من هذه الشّخصيّات وتفرّدها إبرازا قويّا. ويتولّى توجيهها بحسب علاقاتها بمجمل الشخصيّات.

ولعلّ هذا ما يدعو إلى التّساؤل عن علاقة النصّ بفعل المقاومة أو المغامرة المحسوبة. فهؤلاء الرّجال الملحميّون هم قبل كلّ شيء رجال يتحرّكون ويفعلون. لكنّ أفعالهم هي في الغالب مغامرات، بل هي معارك أو قلْ هي تتنزّل دائما في جنس المخاطرة؛ وهذا ما يميّز السّلوك الملحميّ، سلوك البطل حيث يتعلّق الأمر دائما بالمخاطرة الأشدّ، أي المجازفة بما هو أساسيّ لدى الإنسان: حياته. وإذا ما حدث وانزلقت إلى فضاء النص ـ وهذا يحدث في فصول كلّ هذه الرواية – مشاعرُ رقيقة فذلك ذو وظيفة جماليّة تتمثّل في إبراز التّعارضات الفاعلة والمؤثّرة في سير الأحداث التي تؤلّف الرواية على نحو ما تؤلّف مجموع الملحمة. ذلك أنّ الملحمة أو أدب المقاومة لطبيعته الدّيناميكيّة يحتاج إلى تعارضات أو تقابلات أي قوى متضادّة.

تتمثّل هذه الرواية في قسمها الأغنى عالم المقاومة اللبنانيّة، ولكنّها لا تقدّم المقاوم من حيث هو النّموذج الإنسانيّ الفائق في عالم المثل، أي ذاك الذي يخرق القوانين الطّبيعيّة أو الشّخصيّة الملحميّة التي تضفي على البطولة معناها، وإنّما هي تتمثّل أكثر صورة الكاتب المتماهي بخطابه.

askanda-1وهي لا تتردّد في تقديم مساخر الممسوخين في عالم اضطربت قيمه ومثله، ولذلك نقف فيها على المضحك والغريب وكل ما هو متنافر في تجسيد بعض الشخصيّات. وعليه فلا غرابة أن ينزع الخطاب فيها إلى الكلام الشّفهيّ (المحكيّة اللبنانيّة) والسخرية والطّرفة الشائعة. ولعلّ أجلى ما يكون في شخصيّة رنين، وفي مونولوجها أو حديثها إلى نفسها؛ كلّما عثرت في ذاتها على ما تسخر منه عند الآخرين. سخرية من نفسها وهي تتملّى صورة ذاتها التي تعاني من وطأة عالم ثقيل أعمى وافد عليها، ولا طاقة لها على تحمّله.

تقول رنين متحدّثة عن تربية أولادها: «بالطبع يا هاتف..هل تتصوّر أنّ تربية يمكن أن تستقيم بلا رادع؟…وإذا اعترضت عليه [زوجها مازن] أقنعني بقول النبي صلى الله عليه وسلّم «الولد ملكٌ سبع سنين، وعبدٌ سبع سنين، ووزيرٌ سبع سنين»… ص ـ 203 أو التمثّل بالقرآن «قلْ إنّما أنا بشرٌ مثلكمْ يُوحَى إليّ…» ص ـ 194 وص ـ 309 و372، أو الحديث المنقول عن الخليفة عمر بن الخطّاب» إنّما الاعمال بالنيّات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى…» ص ـ 191.

وأقدّر أنّه لا مسوّغ لهذه «الحواريّة» سوى «الشهرزاديّة» [نسبة إلى شهرزاد] التي تكاد تكون سمة كلّ الشخصيّات، فكلّهم يقصّ ويحكي، حتى لكأنّ الرواية أشبه بسلسلة حكايات يتولّد بعضها من بعض، في تأصّل وتفرّع. والخيط إنّما تمسك به رنين أو شهرزاد كما أحبّ أن أسمّيها.

بين شخوص مختلفة، تتراجع الكلامَ وتتجاوب: ما نلاحظه في هذا النصّ، أنه محاورات، حوار بالهاتف بين «رنين» وهي امرأة مدرّسة في العقد الخامس، ومتكلّم اسمه «هاتف» نعرف منه أنّ زوجته المتوفّاة كانت تلميذة رنين، ثمّ حوار بين رنين وابنتها المتزوّجة. وتبدأ حياة رنين بالتغيّر ونكتشف عالمها كلّما تقدّمنا في الرواية وذكرياتها عن زوجها الراحل «مازن» وهو كاتب، وولدها حسام المقيم في دبي، وأنّ لها ولدين آخرين: طارق وحنان. ونعرف أنها تكتب الرواية من خلال حوار بينها وصديقتها «أمل». كما نكتشف عالم هاتف وعلاقته بالمقاومة اللبنانيّة والحاج نعمان، وأنّه موظّف ليليّ يعمل في مركز اتصالات، بل هو كاتب خواطر هي أقرب ما تكون إلى الشعر. ونعرف في الصفحة 143 لمَ سمّيَ هاتف«هاتفا». ونطّلع على جانب من حياته العائليّة وأنّ له ولديْن: نسيم وفاطمة. الكلّ في هذه الرواية يقصّ أو يحكي وكأنه يلعب لعبة شهرزاد، الأمر الذي يستوجب أن يتغيّر المتلفـِّظ والمخاطب كلاهما، فيتغيّر مقام التلفظ بتغيّر الجواب والردّ عليه.

فهذه المحاورات تنحو منحى سرديّا، أو«مسرحيّا» والمتلفظ فيها ـ على ما يوهمنا ظاهر النصّ ـ إنّما هو السارد، أي الذي يقصّ. وهو يشارك في الحكاية أو القصّة التي يرويها. وهو من وجهة نظر أدبيّة «الخالق» أو هو «المؤلّف» أو «المنشئ» بعبارتنا، واقعا كان أم خيالا.

ولا ينبغي أن ننسى أنّنا هنا إزاء خطاب مباشر، أي أنّ الأمر لا يتعلّق بمجرّد وحدتين نحويّتين مستقلّتين، فحسب، بل بمقاميْ تلفّظ متمايزين؛ وبالتالي فنحن إزاء متلفّظين اثنين. ومع ذلك يظلّ السارد ساردا. أمّا المتلفظ ما توخينا الدقة فهو ليس السارد ولا هو المؤلّف. وليس بالمستبعد أن يكون المؤلّف قد استأنس بسيَر أشخاص يعرفهم، بل الأقرب إلى الصواب أنّ «اسكندرونة» تقبس من سِيَر هؤلاء، وأنّ الكاتب عمد إلى تغيير أسمائهم بما في ذلك «رنين» وهاتف، غير أنّنا هنا إزاء «مدوّنة» قصصيّة هي ليست رسائل أو تصريحات صادرة عن المؤلّف ذي السيرة، وإنّما هي ثمرة عمل «جماليّ» معقّد، هو من سعي المؤلّف ـ الكاتب. ويتمثّل هذا العمل في صنع جهاز سرديّ شامل يندرج فيه السارد: الحبكة والشخصيات والموضوعات والأسلوب، بما في ذلك تخيّر سارد مغمور يتخذ وضعا مواربا أو هو مهذار لا يؤتمن على سرّ. وهذه كلّها تؤول إلى «خطّة» أو «سياسة» أو ما يسمّيه المعاصرون «استراتيجيا الكتابة»، وإلى مقصد هو مقصد المؤلّف بهذا المعنى الحصري للكلمة. وهو ما يُصطلح عليه بـ»المؤلف المتوهّم» أو «المؤلّف المتضمّن» أو «صورة المؤلّف النصيّة».

إنّ جملا كثيرة في هذه الرواية، لا تحوي علامة تلفظ، فالمتكلّم لا يُظهر بأيّ شكل من الأشكال أنّه بصدد التكلّم، خاصّة أنّ هذه الجمل عامّة، وكان يمكن أن تتصدّر أيّ فصل، إذ هي تنضوي إلى ما يسمّيه المعاصرون «الخطاب الواصف». وبالمقابل فإنّ أقوالا أخرى يمتحها الكاتب من الأسطورة: حكاية الإسكندر وابن الراوندي والحمار والعجل وعزرائيل وسليمان الحكيم أو حكاية محمود المقاوم والتحقيق معه في عسقلان وكيف حماه المصحف حال التفجير.

فهذه وغيرها تكشف عن حضور كلّ من ضمير التكلّم وضمير الخطاب.

والسؤال: هل السارد في هذا السياق، هو الذي يتكلّم بخطاب الشخصيّة أم هل الشخصيّة هي التي تتكلّم بصوت السارد؟

الأمر في الأدب خاصّة يرجع إلى العلاقة الملتبسة بين العلامة والواقع؛ وهي التي أفضت إلى سجالات كثيرة ولا تزال. والسؤال: أنحن نتدبّر الواقع الذي ندركه على أساس من تفصيل اللّغة إلى علامات منفصلة، أم أنّ طريقتنا في إدراك آلواقع هي التي تلزم اللّغة أن تترتّب بطريقة وليس بأخرى، بعبارة أمبرتو إيكو. فاللّغة من حيث هي نظام من العلامات أو الرّموز تسهم في وصف الواقع. والسّؤال: هل هذا الوصف حياديّ نسبة إلى الواقع؟ بل ألا تؤثّر اللّغة في إدراكنا هذا الواقع نفسه؟ بل ألا يمكن أن يكون إدراكنا الواقع هو الذي يتدبّر اللّغة ويبنيها وينظّمها في هيئة دون أخرى؟

بل أنّ هذه الأسئلة لتتشّعب بنا إلى أسئلة أخرى شائكة: فهل العلامة فعل إراديّ؟ وهل المفاهيم التي نحملها هي التي توجد الأشياء، على نحو ما يزعم المثاليّون أم هل أن وجود الأشياء هو الذي يبتعث فينا وجود المفاهيم، على نحوما يزعم التجريبيّون ؟

والعلامة إنّما تستخدم لإبلاغ معلومة، ولقول شيء أو الإشارة إليه، شيء يعرفه أحد ما ويريد أن يتعرّفه الآخرون أيضا. وهذا وصف لنفعيّة العلامة، يستعيد فكرة الفعل الإراديّ الذي يؤدّيه مرسِل ما متوجّه إلى متقبّل ما. وتتوضّح هذه «الإراديّة» من خلال التّمييز بين العلامة المصطنعة والعلامة الطّبيعيّة. فالأولى تصدرعن الإنسان على قاعدة مواثيق خاصّة مضبوطة بقصد إبلاغ أحد ما شيئا ما. والثاّنية مصدرها طبيعيّ فهي لا تتعلّق بأيّ إرادة ولا بأيّ قصد.

فهذا وغيره ممّا يستوقفنا في رواية فضل مخدر «التليفونيّة» يسوق إلى إحكام التمييز بين ذات متلفّظة وذات ملفوظة، عسى أن ندرك أنّ التلفظ في النصّ عمليّة مزدوجة أو أنّ هناك ساردا ثانيا يندسّ في فعل «قال».

ولعلّ هذا ممّا يسوّغ القول إنّ المؤلّف كلّما تعلّق الأمر بالنصّ، مسرب من مسارب التأويل، أو هو آخر ما يرتسم من آفاق القراءة، أو هو «نقطة التهارب» في التأويل؛ إذا توسّلنا لغة الرسم حيث مثل هذه النقطة هي نقطة تتلاقى فيها الخطوط وكأنّها متهاربة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتب تونسي

منقول عن “القدس العربي” 19/8/2015

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *