الجمعة 29 مارس, 2024

مشاعية الرواية

مشاعية الرواية

كه يلان محمد

وفرةُ الاصدارات الروائية وإنضمام المزيد من الأسماء إلى نادي الرواية، دافع لفتحِ قوس النقاش بشأن العلاقة عن دور وأهمية الوعي في عملية الإبداع الروائي. وقد يتمُّ تفسير ظاهرة التضخّم الروائي والتسابق في مضمار الكتابة الروائية وفقاً للرأي القائل بمشاعية الرواية.

الرواية ليست فناً نخبوياً بالأساس، فكان لفظ الرواية في اللغة الفرنسية يدلُّ الى الأدب الشعبي المكتوب باللغة العامية الرومانية، حسب ما أوردَ بلحيا الطاهر في كتابه «الرواية العربية الجديدة». إذاً، فإنَّ مجال الإختبار مفتوحُ بالنسبة للجميع، فبالتالي لا مندوحةَ من تصاعد المدّ الروائي طالما لا يتطلبُ هذا الفن سوى الرغبة في الإسترسال وتدوين المشاهدات واستحضار الذكريات المطعّمة بما يجودُ به الخيال، أو إمتاح المادة من مظان تاريخية وصياغتها في رداء سردي مختلف. ولكن هل يجوزُ تبسيط الموضوع إلى هذا الحدّ؟ وهل كلّ ما يصدرُ متجنّساً بعلامة الرواية، يتصفُ بخصائص مميزة لهذا الفن؟ هل يكفي التفصيلُ في الكتابة لإنجاز العمل الروائي وترويض المتلقي بالعوالم الموازية؟ ماذا عن دور التقنيات السردية في تأسيس الخطاب الروائي وبناء هيكلية المنجز السردي؟

تقودنا هذه الأسئلة الفرعية إلى السؤال الجوهري: ما هي المصادرُ التي يكتسبُ منها المبدعُ الدراية والمراس في تأليف الأعمال الروائية؟

العمل الروائي

صحيح أنَّ إنجاز العمل الروائي كان يعتمدُ على التفصيل الدقيق والإستغراق في الوصف دون أن يلتفتَ المبدع إلى ضرورة الإلتزام بتخطيط مسبق لبناء مشروعه الروائي، غير أنَّ الأمر بات يختلفُ مع انطلاق المبادرات النقدية ونحت المصطلحات السردية بالإستناد إلى محتويات العمل الروائي، إذ تحولت كتابة الرواية إلى صنعةٍ ولم يعد المحتوى القصصي، هو ما يكونُ بيت القصيد في السرد الروائي، إنما يكمنُ عنصرُ تميّز الهوية الإبداعية في النظم. فبنظر ماريه ألبيريس أنّ الرواية فن كفن العمارة والشعر.

أجندة

إذا كانَ الإسترسال في الكتابة أمراً مقبولاً بالنسبة للكتّاب الكلاسيكيين، حيث لم يمانعْ بلزاك من إقحام مقالة حول لوحات أعجبته في طيات روايته، فإنَّ هذا الأسلوب قد لايستسيغهُ القارئ على المدى الطويل، لاسيما إذا عرفنا بأنَّ إيقاع الحياة المُعاصرة يلقي بظلاله على أمزجة المتلقّي. والحال هذه، فإنَّ إنجاز العمل الروائي يتطلبُ وجود برنامج يحدّدُ أدوات الكتابة وحجم العمل الروائي. إذ تعتبرُ الروائية العراقية لطفية الدليمي، أنَّ سؤالاً عن حجم العمل المطلوب كتابته، مسألةُ جوهرية. فبرأيها لا يمكن الشروع في الكتابة قبل أن يحدّدَ المؤلفُ بدقّة، هل يريدُ كتابة رواية بدينة أو نحيفة؟ من بين ما يعنيه هذا الكلام، أنَّ شكل الرواية لا بُدَّ أن يكون ضمن أولويات أجندة الروائي. فبرأي إريك إيمانويل شيمث، أنَّ الروائي يجبُ أن يكون متوازناً في الإهتمام بالتصميم والتفاصيل في نسيج عمله الإبداعي. ومن جانبه يرى «بنسالم حِميش»، أنَّ ما هو ضروري بالنسبة للروائي هو أن يعرفَ كيف يستعينُ بهذا القالب أو ذاك، بحسب قواعد المناسبة والكياسة وحسن الذائقة. وما يثيرُ الإستغراب، أنَّ تصميم العمل الإبداعي قلّما يحظى بإهتمام في النقاشات النقدية، بينما كانَ الجدل قائماً حول دور النظم واللفظ في إرساء خصوصية النصوص المقدسة لدى أهل الكلام. ومن نافلة القول، بأنَّ النظم في الرواية هو ما يتمظهرُ في الصياغة والتشكيل ومستوى مشاركة المؤلف في فضاء الأحداث المسرودة، هذا إضافة إلى صنف الراوي وزاوية النظر ونوع الضمير. كل ذلك يشكّلُ شبكة معقودة عليها مهمةُ تعين نمط السرد والمسافة الفاصلة بين المؤلفِ والراوي الموكل إليه بسرد القصة. كما أنَّ موقع المتلقّي في هذه المنظومة يتحدّدُ بناءً على ما يختزنهُ النص من طاقات إيحائية. هنا يتضحُ دور تقنية الحذف والتلخيص في تفعيل خيال المتلقي، علماً أنَّ معظم الروايات العربية تعتمدُ على الإطناب وإستعادة تفاصيل الحدث الذي قد يتابعهُ المتلقي في مستهلّ الرواية، الأمر الذي يؤدي إلى رتابة السرد وتثاقل حركته، مع أنَّ الحذف شكل من أشكال الإبداع. زدْ على ما سبق، أنَّ التناص في الروايات العربية غالباً ما يكون من نوع المباشر، وهذا ما يستنفدُ النصَ دلالاته المضمرة. إذ تحتشدُ الروايةُ بسرديات أسطورية وقصص تأريخية ومعلومات توثيقية. ومن المعلوم، أنَّ التلميحَ هو من مميزات النص الأدبي. واللافت في هذا السياق أيضاً، هو ضعف التعبير، حيثُ لا يتمكنُ المؤلف من تقمّص دور شخصياته. كما أنَّ المعلومات الواردة في تيار السرد تبدو ناتئةً لا تخدمُ الحقل المعجمي للنص.

الكاتب المتحوّل

هنا، من المناسب الاشارة إلى ما تقوله آنا غريغوريغنا عن زوجها دستويفسكي، بأنَّ الأخير كان يتحول إلى محامٍ متمكّنُ، عندما يفرض عليه الموقف صياغة شخصية المحامي في رواياته، بحيث تمنت آنا لو كان صاحب «الشياطين» محامياً. ويقولُ الروائي الأفغاني بهذا الصدد: «أقضي سنتين أو ثلاثاً في كتابة أي عمل من أعمالي، وكل شخصية فيها تعيشُ معي يوماً بيوم وتستحيلُ جزءاً من حياتي». إذن، فإنَّ التعبير الشخصي والحسّ الواقعي هما مكوّنان أساسيان في شخصية الروائي، كما يؤكد إميل زولا على هذا الجانب في كتابه «في الرواية ومسائل أخرى». ويُذكر أنَّ زولا كان يجمعُ معلوماته حول النباتات في الحدائق ويحدّدُ لائحةً بأسماء الأزهار ومن ثمَّ يقومُ بتوظيفها في تلافيف أعماله. ما يعني أنَّ من متطلبات كتابة الرواية هي المتابعة والتقصّي، فضلاً عن ضرورة الإدراك لتشكيل معجم المفردات الخاصة بموضوع الرواية، ومراعاة مستويات اللغة.

ديكتاتورية المؤلف

ما يستحقُ التأمّل في الرواية العربية، هو ظاهرة حضور المؤلف، بحيثُ يتخيّل إليك أحياناً أنَّ نمط النص أقرب إلى التقرير من الرواية. إذ قلما يفلحُ صاحب العمل في التواري وراء إحدى شخصياته الورقية. إذ يفوقُ صوتُ المؤلف علواً على أصوات أخرى، حتى ولو كانت الرواية موزعة على فصول عدة تحملُ أسماء شخصيات مشاركة في العمل. وهذا ما يمكنُ تسميته بديكتاتورية المؤلف. إذ تأتي تدخّلاته وتعليقاته المعبّرة عن خلفيته الآيديولوجية بوضوح، يوفر على المتلقي عناء التأويل. ويبدو أنَّ ما يقدّمهُ في القالب الروائي ليس إلّا عبارةً عن مقتبساتٍ من أعماله السابقة. ونحنُ نشيرُ إلى هذه الظاهرة، فحري بنا التذكير بما أنجزه نجيب محفوظ في روايته «ميرامار»، حيثُ ترى إيقاعاً متناغماً بين التحولات الخارجية والمستوى النفسي لدى شخصياته، هذا ناهيك لما تتصفُ به الرواية من تعددية للأصوات، بخلاف اللغة التقريرية في الروايات السائدة. أكثر من ذلك، فإنَّ هناك تشابهاً بين الروايات التي يتوالى اصدارها في معالجة الثيمات والإشتغال على ظواهر الإرهاب والهجرة والحرب ورمزية الجثة. هذا يعني أنَّ الطفرة الروائية ليست مصحوبةً بالوعي الإبداعي، وإلّا كيف تفهمُ إهمال الروائيين لهموم الفرد وانعكاس التحولات السياسية والإقتصادية والإجتماعية في رؤيته. فالإنكباب على القضايا لا يضفي بالضرورة إلى انتاج الأعمال المميزة، لأنَّ مع غياب الثيمات، فإنَّ كتابة الرواية عن الرواية إمكانية متاحة على حدّ قول الناقد الجزائري لونيس بن علي.

صفوة القول، فإنّ تجديد الثقافة الروائية يستدعي إجراء المقارنة بين الرواية العربية والأعمال الأجنبية، لتبصر بالفنيات العالية في مقاربة الثيمات والصياغة. هنا يمكن الإشارة على سبيل المثال، إلى رواية «فنان من العالم العائم» للكاتب الياباني كازو إيشغور، حيثُ يتناول في عمله ملامح بلده الإجتماعية والإقتصادية وإختلاف الأجيال في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويتمُّ هذا كله إنطلاقاً من رصد توترات الفرد وقلقه.

المصدر: جريدة الجمهورية الصادرة في بيروت بتاريخ 15/8/2020

www.aljoumhouria.com

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *