السبت 20 أبريل, 2024

كأن يدي مُنبَتةٌ عن أصابعي

كأن يدي مُنبَتةٌ عن أصابعي

(إلى صور، مدينتي الأم)

شوقي بزيع

c2adb509-8beb-44c3-a071-ebdde0d8892cبأيِّ بريقٍ في الكناياتِ أسْتهدي

وأيُّ غبارٍ أجتلي طلْعَهُ المعْدي؟

أنا صورُ مرآةُ الزّمانِ الذي خلا

ومَنْ شجَّ بطْنَ البحر كالخنجرِ الصَّلْدِ

فأنجبَني من ضلعه مثل آدمٍ

من الملح توّاقٌ إلى العَسَل الشّهْدِ

ونوديَ بي: يا صورُ كوني مدينةَ

المجازِ الذي ربّى الجمالَ على الصدِّ

فكنتُ كما شاءتْ رؤايَ، صبيَّة

من الألَقِ المكْنون ناحلةَ القدِّ

فلا نثرَ إلاّ من صدى ما اجترحْتُهُ

ولا شعرَ إلا خِلْتُهُ خادماً عندي

***

أنا صورُ، أمُّ الأبجديّات كلِّها

ومسرى هبوبِ الأرجوانِ على الورْدِ

فمن شاطئي صاغتْ أليسارُ عالَماً

يؤثّثُ للأحياءِ مملكةَ الوجْدِ

وما ابتُكِرَتْ قرطاجُ إلا لأفتدي

بنفسي الأساطيرَ التي حفظَتْ عهْدي

على جلْدِ ثيرانِ الجنونِ رسمتُها

لتفصلَ عطرَ الروح عن خُوَذِ الجُنْدِ

وفي دَرَكِ الخَلْقِ الأخير تعهّدَتْ

خطايَ بروقاً لا تؤولُ إلى غمدِ

أنا صورُ، رمْلي من حُلِيِّ تهجُّدي

وعينايَ عنقائي، وهاويتي مجْدي

***

أيا صخرةَ الغرْقى الذين توسّلوا

مجاهيلَ، أعفتْها السماءُ من الرَّدِّ

هَبيني عروجاً نحوَ ليل وساوسي

يصفّي لهيبَ الشِّعرِ من وطأةِ السَّردِ

فإنْ خانني المعنى فكلُّ مدينةٍ

ظَهيرُ عَماء الشّكلِ في رمْية النَّردِ

وما مُدُنُ العشّاق إلا قصائدٌ

تطارد أضغاثاً هُلاميَّةَ الوعْدِ

وهل غيرُ نهرِ الشّاعريّاتِ مَن رعى

انحلالَ الأسى المصريّ في وَرَق البُردي

وربّى لأحشاءِ الرِّمال مواجعاً

تعهَّدَها بالنّأْي لفْحُ صَبا نجْدِ

وألَّفَ من بحرينِ صورينِ للرّؤى

كأنّهما شَطْرا جمالٍ بلا حدِّ

فأهدى العُمانيّين صوراً مُضاءةً

بما أوْدعتْهُ الشّمسُ في الحُجُب الرُّمْدِ

وأخرى اجتباها من عذاباتِ أهلها

كما يُجتبى الينبوعُ من مِزقِ الرّعْدِ

***

عروسَ الجنوبيّين جئْتُكِ رانياً

الى ما تبقّى من شذى الزّمنِ الرّغْدِ

هنا حيثُ نامَ العُشْبُ في راحَتَيْ أبي

لينمو، وآخى البيلسانُ ثرى جَدّي

هنا حيث يبني الناسُ من حجر الأسى

بيوتاً، وحيث الدّمعُ فاكهةُ الفَقْدِ

يقول شهيدٌ لابنه البكْر: كُنْ غدي

لأحيا، وأَكمِلْ دورةَ الأرضِ من بَعْدي

خِفافاً يلاقونَ المَنونَ تقودُهمْ

مجرّاتُ آلامٍ رسوليّةُ الزُّهْدِ

ويَسْرونَ في نُسْغِ التّراب كأنّهمْ

رنينُ تجلّي الله في سورة الحَمْدِ

***

مُصيخاً إلى ما فاتَ من أَلقِ الحَصى

ومن وخْزِ غصَّات أُكابرها وحْدي

أسائلني: ما الشّعر؟ ما ذلك الذي

يقضُّ شرايين السكينةِ كالخلْدِ؟

تربَّص بي، مُذْ رحْتُ أحبو، صهيلُهُ

وزيَّن لي طفلاً نجوماً بلا عَدِّ

وما انفكَّ في السّتين يرفو بنصْلِه

حنايايَ، حيث الأرضُ تلمعُ عن بُعدِ

كأنّ يدي مُنْبَتّةٌ عن أصابعي

وصوْتي تشظِّي النّايِ في أحرف المَدِّ

وتُبعدُني عنّي ظِلالي فهل أنا

شريدُ المرايا أم نزيلٌ على جلْدي؟

على أنّه منذ اتَّقاني بعصْفِه

ولو لم أُجرَّعْ كأسَه المرَّ عن عمْدِ

تغشّى الصبابات التي عزَّ لمسُها

بما لا يُجارى من ضفائرِها الجُعْدِ

وهيَّأَ لي مع كلّ ثغرٍ لثمتُهُ

مهبَّ اشتهاءاتٍ عصيًّا على الفصْدِ

فأنَّثْتُ أسرابَ المعاني لأجتلي

حفيفَ هبوط الحُورِ من جَنّةِ الخُلْدِ

وأوْكلَ لي ما لمْ أُحَمَّلْهُ طائِعاً

وما لمْ يعنِّي كي أتوبَ إلى رُشْدي

كأنْ كلُّ شَهدِ الأرض سالَ على فَمي

وكلُّ بناتِ الشِّعر نِمْنَ على زِندي

***

وحيداً على مدِّ النّساء أقودُني

إلى كلِّ جَمْرٍ في المخادِعِ مُشتَدِّ

وأُرهِفُ سَمْعي للعُصور التي نأَتْ

فأَسْمَعُ ديكَ الجِنِّ يبكي على ورْدِ

وأُسرِجُ للصّحراء جَرْس غروبِها

وأُهدي الثُّنائيَّات تفّاحَها المُردْي

فإنْ شاقَني بَرْقٌ بَتَرْتُ وميضَهُ

وإن حالَفَتْني الرّيحُ ألَّبْتُها ضِدّي

وإمّا انحَنى نَهْدٌ على الجَمْر خِلتُني

تَنهُّدَ حَرْفِ الهاءِ في حُرْقةِ النَّهْدِ

***

أيا صورُ رُدّي عن صبيٍّ تخلَّعَتْ

خُطاهُ، بعيداً عنكِ، غائلةَ البردِ

أعيدي لعينيَّ المياهَ التي رَعَتْ

حريرَ نُعاسي خَلْفَ أقمطةِ المَهْدِ

أنا ابْنُ الحِداءات التي ظَلَّ شَجْوُها

يطاردُ ما أخليْتُ من كَدَرِ السّهدِ

أهاجرُ في وجهي القديمِ كأنّني

نَظيرٌ لما أُخفي، وضلِّيلُ ما أُبدي

وما جئْتُ إلا كي أعيدَ قصيدَتي

إلى ثَلْمها المفتوحِ في كَبِدِ الجرْدِ

اللوحة للفنان الأردني محمد العامري

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-07-20 على الصفحة رقم 10 – ثقافة

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *