الجمعة 29 مارس, 2024

قراءة في كتاب نظرية المعرفة عند الفارابي

قراءة في كتاب نظرية المعرفة عند الفارابي

وفيق غريزي

alfarabi-1يرى الفيلسوف كارل ياسبرز أن التأمل الفلسفي ينبع من صميم الإنسان، وليس أدل على هذا من أننا نلحظ هذه الظاهرة في أسئلة الطفل الشغوف التي توقع الكبار في أشد إحراج. ومن أمثلة ذلك أن طفلاً ينادي متعجباً: أحاول أن أفكر فيما إذا كنت شخصاً آخر ومع ذلك فأنا دائماً أنا. وبهذا يمس الطفل شغاف مشكلة على غاية كبيرة من الأهمية هي مشكلة وجودنا، أي معرفة الذات الإنسانية أي معرفة الأنا، فيقف الطفل حائراً أمام اللغز ينتظر الإجابة عن سؤاله، فهناك، دائماً، رغبة جياشة عند الإنسان من حيث هو إنسان، للإسهام في تيار الفكر الإنساني بالتأمل والبحث.

فالمعرفة الإنسانية لا نهاية لها، حيث السعي الحثيث للبحث عن المجهول. وكذلك التطلع الدائم الى صيغ الحياة الإنسانية بصيغة جديدة، فالحقيقة في الفلسفة غاية بعيدة تسعى الأجيال وراءها. فالحقيقة التي بذل الفلاسفة الأوائل جهدهم من أجل معرفتها، هي نفسها الحقيقة التي لا زال الفلاسفة المعاصرون يشكلونها ويصوغونها بعقولهم. فالمذاهب تتعدّد، والمشكلات هي هي، لأنها مشكلات نابعة من الإنسان، الذي مهما اختلفت آراؤه فهو دائماً شغوف بالمعرفة محب للاستطلاع، دائب دوماً على تشكيل حياته وتذوقها.

طبيعة المعرفة الإنسانية

الدكتور محمود موسى زياده استنطق ما كتبه الفارابي ليصوغ رؤية حديثة تليق بوجهة الفارابي. ولذلك قام الباحث بتحديد مصادر المعرفة عند المعلم الثاني.

ويؤكد الباحث ان نظرية المعرفة تبحث في طبيعة المعرفة الإنسانية، وإمكانها، وحقيقتها، وطرقها، ووسائل تحصيلها، وحدودها، ومعيار الحقيقة فيها، والهدف منها. ويتجه البحث في طبيعة المعرفة الى بيان كيفية العلم بالأشياء، أي طبيعة اتصال القوى المدركة لدى الإنسان بموضوعات الإدراك، وعلاقة كل منهما بالأخرى. أما فيما يتعلّق بطرق المعرفة ووسائل تحصيلها فتختلف وجهات النظر، فبينما يرى التجريبيون أن الحس هو مصدر المعرفة، يقرّر العقليون أن المعلومات التي ترد عن طريق الحس ليست يقينية، ولا يمكن الركون إلاّ الى العقل كمصدر للمعرفة التيقنية. وما يصدر عن العقل فصدقه ضروري ومحتوم، على حد قول الدكتور زكي نجيب محمود. في حين يذهب أصحاب المذهب النقدي الى أن المعرفة لا تتم إلا بالخبرة الحسيّة والمبادئ العقلية معاً.

ويلفت الباحث النظر الى أن الفلسفة اهتمت بجملة هذه القضايا التي تشكل محاور البحث الفلسفي في مجال المعرفة منذ نشوء الفكر الفلسفي وحتى الآن. فقد أدخل أفلاطون الموضوعات المتعلّقة بالمعرفة فيما أطلق عليه إسم الجدل، وضمّنها أرسطو الموضوعات المتعلّقة بالميتافيزيقا، أو ما وراء الطبيعة.

الفلاسفة العرب كغيرهم من الفلاسفة السابقين لهم، أو اللاجئين عليهم، اهتموا اهتماماً ملحوظاً بمبحث المعرفة في الفلسفة العربية لدى الكندي الذي يرى أنَّ المعرفة الإنسانية تنطوي على قسمة مزدوجة، تتجلى في المعرفية الحسيّة والعقلية، فالوجود عند الكندي وفق قول الباحث: وجودان: واقعي حسي يمثل ما يمكن أن تدركه الحواس، مما تحصّله من صور الأشياء الخارجية. ومثالي عقلي: يُعبّر عنه بالمقولات، أو مما يدركه العقل من معان كلية.

أما أبو نصر الفارابي ٢٥٩ – ٣٣٩ هجرية فقد ظهر اهتمامه بمشكلة المعرفة، من خلال عنايته بمشكلة المنهج، وإحصاء العلوم والمنطق، وغيرها مما يمهد لنظرية المعرفة، فقد أولى الفارابي الحواس دوراً مهماً، فهي المصدر الأولي في تحصيل العلوم، حيث اعتبر الوجود شرطاً ضرورياً لحصول المعرفة. فإدراك الكليات يتم من خلال إدراك الجزئيات، حسب قول الباحث.

عملية الإدراك

إن الوجود الخارجي هو الأصل الموضوعي للماهية الكلي في موضوع المعرفة، أما التذكر فهو، عند الفارابي، يعني أن الإنسان يتذكر ما قد اجتمع لديه من تجارب متراكمة عن الجزئيات الخارجية المتشابهة، التي حصلت في نفسه جزءاً جزءاً، وفي أوقات متباعدة، عن الشيء الواحد بعد أن يكون قد نسيها. وينقل الباحث عن الفارابي قوله: فمهما وُجد مُهماً قصد معرفته دلائل وعلامات ومعاني ما كان في نفسه قديماً، فكأنه يتذكّر عند ذلك، كالناظر الى جسم يشبه بعض أعراضه، بعض أعراض جسم آخر كان قد عرفه وغفل عنه، ليتذكره بما أدركه من شبيهه.

وهكذا، فالفارابي فيما يخص المعرفة، وسبل تحصيلها، يشيّد موقفه على أساس أن حصولها للإنسان يكون أولاً من جهة الحواس. فإتمام العملية المعرفية الحسيّة استناداً الى المفهوم الذي يعتمده الفارابي، لا يختلف عمّا يذهب إليه أرسطو عن تبعية العقل للحواس في فعله المعرفي زيادة ونقصاً، حيث ينقل الفارابي عن أرسطو قوله: من فقد حساً مّا فقد فَقَد علماً مّا.

لقد ميّز الفارابي بين الإدراك الحسي والإدراك العقلي، وبين طبيعة كل منهما بقوله: ليس من شأن المحسوس من حيث هو محسوس أن يُعقل، ولا من شأن المعقول من حيث هو معقول أن يُحس. وأكد حسب رأي الباحث، أن الحواس هي المصدر الأول للمعرفة بقوله: وحصول المعارف للإنسان يكون من جهة الحواس، وإدراكه للكليات من جهة إحساسه بالجزئيات.

وقد قسّم الفارابي الحواس الى قسمين: حواس ظاهرة وحواس باطنة، حيث يقول في رسائله: وإن من قواها المدركة النفس الناطقة الحواس الظاهرة والباطنة والقوة المتخيّلة والقوة الأهمية والقوة الذاكرة والقوة المفكرة.

أما علاقة الحواس الظاهرة بالأشياء المحسوسة، فتتمثل وفق رأي الباحث، في إدراكها تلك المحسوسات من الخارج بانطباع صورها في الحواس، كإنطباع أو إنتقاش الخاتم في الشمع. فالفارابي يشبّه تأثير المحسوسات في الحواس بتأثير الخاتم في السُمع، وهذا يماثل، الى حدٍّ كبير، ما ذهب إليه المعلّم الأول أرسطو: يجب أن نفهم أن الحاسة بوجه عام في كل إحساس هي القابل للصور المحسوسة عارية من الهيولى. وكأن جوهر الإدرك الحسي قائم بمماثلة بين المدرِك والمدرَك المحسوس. وثمة تشابهاً واضحاً بين الفارابي وأرسطو: ليست ماهية قوة الحس ولا الحاسة مقداراً بل صورة وقوة للماس، فيظهر من ذلك، بوضوح، لماذا كانت شدّة المحسوبيات تفسد أعضاء الحس، ذلك أن الحركة إذا كانت شديدة جداً على عضو الحس، فإن الصورة تتلاشى كما يحدث في التناسب والمقام عندما تضرب الأوتار بشدة. فالفارابي يرى كأرسطو أنه إذا كان تأثير المحسوس قوياً، فإنه ربما يفسد عضو الحس.

ويشير الباحث الى أن المعرفة الحسية، عند الفارابي، تؤدي دوراً مهماً على صعيد المعرفة ككل، لأننا في مرحلة معيّنة لا ندرك حقيقة الشيء في ذاته، بل تقتصر معرفتنا على ما يتعلّق بالخواص واللوازم والأعراض. وبالتالي كما يقول الفارابي في كتابه التعليقات: فنحن نجهل، في هذه المرحلة، حقائق عدة، كحقيقة الله، وحقيقة العقل، وحقيقة النفس، وكذلك الفلك والأركان الأربعة، ونجهل حقيقة الجوهر والجسم ولا نعرف منه سوى الأبعاد الثلاثة.

إذن، فالإدراك الحسي لا يطلعنا على طبائع الأشياء، بل يطلعنا على خواصها ولوازمها وأعراضها وجزئياتها، فإذا أردنا أن نطلع على طبائع الأشياء، وجب علينا أن نذهب الى ما وراء الإدراك الحسي، للوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر، ونحن لا نعرف من الأشياء إلاّ الخواص واللوازم والأعراض.

المعقولات كما يقول الباحث: لا تدرك بالحس، بل تدرك بالعقل عن طريق الحواس، والعقل يدرك الكليات بينما الحواس تدرك الجزئيات.

فالإدراك العقلي، مرحلة عليا للمعرفة الإنسانية، من حيث أن العقل بدلالته الحسية هيئة ما في مادة معدّة لأن تقبل رسوم المعقولات، فهذه الهيئة بالقوة عقل، وبالقوة معقولات، وليس في جوهرها، ما يدفعها إلى أن تصير معقولات بالفعل، ولذلك تحتاج الى شيء آخر ينقلها من حال القوة الى حال الفعل، وهذا الفاعل، بحسب الفارابي، هو العقل الفعّال. وكأن النفس من وجهة نظر الباحث، في عملية الإدراك تبدأ مع الحس، لتنتهي الى ما هو خلف الحس، الى رتبة العقل المستفاد، وعندما يصبح لها الإستعداد التام بلغ هذا العقل رتبة العقل الفعّال بلا واسطة.

فالمعرفة الإنسانية لحقائق الأشياء الموجودة خارجياً، لا تحصل إلاّ بعد اتصال نفوسنا بالعقل الفعّال، فهو الحافز لها على المعرفة، وهو ما يجعل العقل بالقوة عقلاً بالفعل، حيث هو المصدر الذي تفيض منه المعاني.

الذاتية والموضوعية

لقد عرّف الفارابي الفلسفة وبيّن جدّها وماهيتها بأنها العلم بالموجودات بما هي موجودة، فهي تقف على علّة الشيء، وتتصل بالعلوم الأخرى، وتشملها سواء أكانت إلهية وإما طبيعية وإما منطقية وإما رياضية وإما سياسية. وصناعة الفلسفة هي المستنبطة لهذه والمخرجة لها. فالفارابي حسب رأي الباحث، يحدّد بأن الفلسفة علم، ولما كانت العلوم منقسمة الى عملية ونظرية، اشتملت الفلسفة على هذين القسمين أي الفلسفة النظرية والفلسفة المدنية، فالقسم الأول تحصل به معرفة الموجودات التي ليس للإنسان فعلها، وهي الفلسفة النظرية. أما القسم الثاني فتحصل به معرفة الأشياء التي شأنها أن تفعل، والقوة على فعل الجميل منها، وهي الفلسفة العملية أو المدنية.

وقد ذهب الفلاسفة ومن بينهم الفارابي الى القول: إن العلم هو حصول صورة الشيء عند العقل أو إنطباع صورته في الذهن، سواء أكان الشيء جزئياً أم كلياً، موجوداً أم معدوماً. ويُقصد بعند العقل حصول صورة المعلوم في آلات العقل وهي الحواس، وذلك في الأمور المحسوسة. أما في ما يخص الأمور الكلية المجردة يقول الباحث: فتحدث صورة المعلوم في العقل دون توسط الحواس. وتسمّى الصور الذهنية المنقولة بالحواس المقولات الاولى، أما الكليات المجرّدة فتسمى المعقولات الثانية.

ومن أساليب الفارابي في تحليل المعرفة، تقسيمه التصورات والتصديقات، الى بديهيات ونظريات. فهناك تصورات بديهية لا بد من الإنتهاء إليها، بحيث لا يكون هناك تصورات أخرى تتقدمها كمعاني: الوجوب، والوجود، والامكان وسائر ما يسمى في الفلسفة بالمفاهيم العامة. فهذه تصورات حسب اعتقاد الباحث لا يحتاج العقل في ادراكها الى أكثر من تصور موضوعاتها، فإن هذه لا حاجة بها الى تصور شيء قبلها يكون مشتملا تصورها، بل هذه معان مركوزة في الذهن. ومتى رام أحد إظهار هذه المعاني بالكلام عليها، فإنما ذلك تنبيه للذهن، لأنه لا يروم إظهارها بأشياء هي أشهر منها كما يقول الفارابي في كتابه عيون المسائل.

وثمة تصورات نظرية تنالها النفس بعد إعمال القوة الفكرية، في المفاهيم الكلية من الانسان والحصان والشجرة ونحوها. فإن النفس تحصّلها بعد إدراك أفراد كثيرة لذلك المفهوم الكلي عن طريق الحس.ثم يقوم العقل بعد ورود صورها الى الذهن بتجريدها من المشخصات أولا، ثم بالأخذ بالقدر المشترك الذي يعم جميع الأفراد.

الماهية والوجود

يعتقد الفارابي، بأن الماهيات موجودة في الأعيان، ولكن بشكل مخالط للمادة، فالعقل، الذي يدرك من الوجود معناه الثابت، ويدرك ماهيات الأشياء المتغيّرة، يقوم بانتزاعها من هوياتها، ويدركها حينئذ كماهيات وصور عقلية مفارقة لموادها، كما يؤمن الفارابي حسبما يوضح الباحث، بوجود معرفة أولية عند الإنسان. وهذه المبادىء وأشباهها هي التي تجعل المعرفة ممكنة، ولولاها لما استطاعت النفس أن تنقل الصورة من حالة الى حالة حتى تصبح مجردة تجريداً تاماً يعقلها العقل الذي بالقوة، ويصبح بها عقلاً بالفعل.

فالماهية هي ما يجاب به في شيء ما، فكل سؤال عما هو الشيء تكون الإجابة عنه بماهية الشيء. ويعني الجرجاني بماهية الشيء: ما به الشيء هو هو، ما دامت ماهية الشيء هي هي، فهي لا موجودة ولا معدومة ولا كلي ولا جزئي ولا خاص ولا عام. فعندما تلتفت الى ماهية الشيء، بغض النظر عن أية حيثية أخرى، سوف تجد مفهوماً فحسب، لا يتضمن معنى الوجود، ولا معنى العدم ولا يستلزم معنى كونه كلياً ولا معنى كونه جزئياً. ولهذا السبب يقول الباحث: كانت الماهية من حيث هي هي، لا موجودة ولا معدومة ولا كلية ولا جزئية، إذ إن الماهية تطلق، غالباً، على الأمر المتعقل، مثل قولنا، التعقل من الإنسان وهو الحيوان الناطق بغض النظر عن الوجود الخارجي. فماهية الشيء، هي تلك الخصائص التي يدركها العقل، وتبقى على حالها دون اي تغيير يطرأ عليها.

اما عن علاقة الماهية بالوجود، فيثبت الفارابي أن الوجود يطرأ على الماهية وليس مقوماً من مقوماتها الذاتية حيث يقول: الوجود من لوازم الماهيات لا من مقوماتها. وليست الماهية متضمنة في معنى الوجود، ولا الوجود متضمناً في معنى الماهية، وهذا ينطبق على الموجودات. ويشير الباحث الى ان الفارابي ميّز بين الماهية والوجود في الأشياء، أي كل ما كانت هويته غير ماهيته، وكانت هويته من غيره. وهذا لا يعني الفصل بينهما، اذ توجد علاقة تربط بين الماهية والوجود، وبخاصة اذا كان الموجود منحازاً بماهية ما خارج النفس، وتصورت في النفس. فلا معرفة حقيقية دون اتصال بالعقل الفعّال، الذي يفيض المعقولات او الكليات. فالكليات لا تحصل من الحس او العالم الخارجي الموضوعي، بل تأتينا من العالم العلوي إفاضة وهبة من واجب الموجود. فالإنسان بقول الباحث: لا يحصل المعرفة باجتهاده، بل تجيء اليه هبة من خارجه، هبة من العالم الأعلى وعن طريق الاتصال بالعقل الفعّال، ولكنه قبل ذلك يجب ان يكون العقل مستعداً لقبول الفيض. وبذلك يستطيع الانسان ان يحصّل المعاني الكلية عن الأشياء، وبهذا يتحول الادراك الحسي الى ادراك عقلي.

وهكذا، يبني الفارابي نظريته في المعرفة على الوجود، الذي يعتبره شرطاً أساسياً وضروياً لحصول المعرفة. فعن طريق ادراك الجزئيات التي في الخارج، ندرك المعاني الكلية، فالوجود هو الأصل عند الفارابي في مجال نظرية المعرفة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نظرية المعرفة عند الفارابي، تأليف الدكتور محمود موسى زياد، منشورات الانتشار العربي – بيروت – ٢٠١٨

جريدة الأنوار اللبنانية ـ السبت: 12/5/2018

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *