الجمعة 19 أبريل, 2024

سميح القاسم في ذكراه : في البدء كانت الثورة

سميح القاسم في ذكراه : في البدء كانت الثورة

أديم أبومدين

p22_20150808_pic2غزّة | من رحمِ امرأةٍ عربيةٍ فلسطينية، ولد سميح القاسم.

وترعرع الطفلُ العنيدُ في ظِلِّ الثورةِ وأوجاعِ النكبةِ التي كان شاهداً عليها.

وفي البدء كانت الكلمة…

وكانت الكلمةُ ثورةً ونضالاً صلباً…

وسميحٌ كان الملكَ الفارسَ للكلمة…

عطرها بعبَقِ التاريخِ وصلابةِ سلطان الأطرش والقامةِ الشماءِ لكمال جنبلاط.

علم مبكراً أن الزمنَ العربيَّ الرديءَ لن يُضعفَ إرادةَ شعبِهِ في الحياةِ والنصر، فشمر عن ساعدِ قلمِهِ ولسانِه، ونثر قصائدَهُ غذاءً لجيلٍ كاملٍ من الشبابِ العربي، حصانةً له من داءِ اليأسِ، وتأكيداً على أن الحقَّ والعدلَ لا بدَّ أن ينتصرا مهما طالَ الزمنُ واشتدَّ الظلم.

كنت في التاسعةِ من عمري حين تعرفت على الشاعر سميح القاسم، عندما اصطحبني والدي لحضورِ أمسيةٍ شعريةٍ له على هامشِ معرضِ الكتابِ الدولي في القاهرة. وقد كان ذلك خلالَ انتفاضةِ الحجرِ، الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي ألهمها سميحٌ بشعرِهِ و كتب لها بتميزٍ وانفراد.

عرفتني كلماتُهُ وأشعارُهُ على فلسطين َ التي لم أعرف، فلسطين ِالأبوابِ الموصدة، فلسطين ِ الحواجزِ والجدرِ الفاصلة، فلسطين ِ القلبِ والوجدان. وربطتني قصائدُهُ بأهلي في الداخلِ وفي المهاجرِ والمنافي، ورسَّختْ لدي القناعةَ بأن فلسطين َهي البدايةُ والنهايةُ، وبأنها البوصلةُ التي يجب ألَّا نحيدَ عنها أبداً.

عندما افكر بعلاقتي به، أشعر أنها تختصر علاقةَ أرضِ فلسطين َبكلِّ أبنائِها: علاقةٌ وطيدةٌ وثيقة، ترابطيةٌ تبادليَّة، كتلك التي تنشأ بين الشجرةِ وغارسِها .

كان سميح القاسم شاعراً استثنائياً بكل المقاييس. هو الذي قاوم واعتقل، وصمد وتجّذر في ارضه كشجر الزيتونِ الضاربِ جذورَهُ في القدس وحيفا والنقب وبيت لحم وفي كل شبر من فلسطين من اقصاها الى اقصاها .

هو الذي كلما خط كلمةً ونظم بيتاً، كان يسترد هويتَهُ ويحيِّي فلسطين ويلهب حماسةَ أهلِها ومقاوميها.

كانت حياتُهُ حافلةً بالشعرِ والكفاح، وحبِّ الأرض والحياة. وسكنت اشعارُهُ وجدانَ الجماهيرِ العربيةِ من المحيطِ الى الخليج، وأصبحت مصدرَ إلهامٍ لكل المقاومين والثوار.

بصدقِ مشاعرِهِ وحرارةِ كلماتِهِ التي حمَّلها أكثرَ مما تحتمل الحروفُ، وشَمَ سميح القاسم المشهدَ الثقافي العربي والفلسطيني. وكان عصيَّاً على التصنيفِ برغمِ الحروبِ الكثيرةِ عليه، فظل عربياً فلسطينياً، وظل صوتُهُ وحرفُهُ عربيَّيْن ناصعيْن.

نعم. كان سميحٌ الوجهَ الأنصع لفلسطين، ثائراً في زمن الخنوع. كان فلسطينيَّ الهويةِ، عروبيَّ الانتماءِ، أُمميَّ الفكرِ والثقافة. سكنته أحلامُ المسحوقين والكادحين في هذا العالمِ فكتب لهم.

كان يكره التصنيفاتِ الطائفيةَ والتعصبَ الدينيَّ والعِرقيَّ والمذهبي، يمقت التكفيرَ والقمعَ الفكري. كان نبياً للتسامحِ والتآخي بين الأديان والطوائف.

كان منحازاً للمقاومة بكل أشكالِها وأطيافِها. وهو الذي قال: “لو طبّع كُلُّ العربِ مع إسرائيل، سيبقى هناك شخصٌ اسمُهُ سميح القاسم، لن يطبّع”.

في أيار (مايو) عام 2000، حل سميح ضيفاً على «جامعة بيرزيت» في رام الله، وكنتُ إحدى طالباتِها آنذاك. جاء ضمنَ فعالياتِ الاحتفالِ بانتصارِ المقاومةِ اللبنانية ودحرِ الجيشِ الاسرائيلي من جنوب لبنان.

يومَها، اكتظت قاعةُ الشهيد كمال ناصر بالحضور، وتعالى التصفيق، وصدحت الحناجرُ بالهتافاتِ الوطنية. وما أن اعتلى شاعرُنا الكبيرُ المنصةَ وبدأ بالقاء قصيدة “تقدموا”، حتى امتلأت عيونُ الحاضرين بدموعِ الفخرِ والأمل، وسادت المكانَ حالةُ زهوٍ واعتزازٍ ربما لم يشهدها أبناءُ جيلي من قبل.

ليس غريباً ولا مستهجناً أن يظهرَ من بين أحفادِ “بني معروف” مناضلون، فلقد كانوا دوماً سيوفاً عربيةً في خطِّ الدفاعِ الأولِ عن قضايا العروبةِ والإسلام عبرَ تاريخِهم الطويلِ في المنطقة العربية. ورغم كلِّ محاولاتِ التشويهِ وزرعِ الفتنةِ والفرقة، ستبقى الطائفةُ العربيةُ الدرزيةُ مكونا جوهريَّاً في فسيفساءِ المجتمعِ العربي والفلسطيني.

لقد كان سميحٌ شعلةً مضيئةً لا تنطفئ أبداً في صدامه مع الحركةِ الصهيونيةِ ودولةِ الاحتلال. وستظلّ سيرته تَهدي الثائرين على دربِ المقاومةِ والتحريرِ إلى أن يندحرَ الغاصبون ويعودَ الحقُّ الى أصحابِه.

حمل سميحٌ نعشَهُ على كَتِفِهِ ومشى منتصبَ القامةِ، مدافعاً عن فلسطين وأهلِها. وكان من أوائلِ الشبابِ ِ الذين تمردوا على قانونِ التجنيدِ الإلزامي، بل أسس هو ورفيقُ دربِهِ سعيد نفاع في عام 1958، تنظيمَ الشبانِ الدروز الأحرارِ لمحاربةِ «مؤامرةِ التجنيد» كما كان يسميها. ولم يثنِهِ عن ذلك لا السجنُ المتكررُ ولا الإقامة الجبرية. واستمر في مشوارِ النضالِ والكفاحِ ضد عنجهيةِ المحتلِّ وغطرستِه.

وها هم شباب الجليل في عيلبون والمغار والرامة وعسفيا يسيرون على خطى سميح ويرفضون أن يكونوا وقوداً لنار حروب تحرق الإخوة و شركاء الدم والمصير…فمنهم من اعتقل وحوكم ومنهم من ينتظر.

رحل عنا سميحٌ في لحظةٍ كانت فيها غزةُ واقفةً في عين الموتِ، تنزفُ دماً، وتبكي أسىً لخِذلانِ الأقربين. كان أهلُها الصامدون يقاومونَ ويُسْتَشْهَدون. ولعلَّ قلبَ سميحٍ لم يَعُدْ قادراً على الاحتمالِ فوَهى وتوقَّف، وهو الذي حمل الوطنَ في شِغافِهِ مدى العمر. حمله حبَّا كبيراً نابضاً بالحياة، وها هو الوطنُ اليومَ يحملُهُ في أحشائِهِ ابناً بارَّاً ومناضلاً لم يستسلم قَط.

يومَ رحل سميحٌ عن عالمنا، كنت في غزةَ قيدَ الحصارِ وتحتَ النار. وها انا اليومَ أرثيه من مهجري الجديد البعيد. وفي كلتا الحالتين، أشعر أن فلسطين حاضرةٌ، نضرةٌ، ودافئة، بكلماتِهِ الحيَّةِ الدافقة، وبنبضاتِ قلبي ……

غادرنا سميح القاسم بجسدِهِ ككلِّ الراحلين، لكنه هناك مع الأخيار من ابناء فلسطين المناضلين الكِبار، كإبراهيم وفدوى طوقان، وعبد الرحيم محمود، وتوفيق زياد، ومحمود درويش، وابراهيم ابو لغد وادوارد سعيد … الذين سيبقون دائماً معنا، في مدارسِنا وثقافتِنا وضمائرِنا، يعلموننا أن فلسطين َ لن تموت، وسيظلُّون بلسماً يداوي جراحَنا، وتعويذةً تدفع الوهَنَ عن إرادةِ أجيالِنا القادمة.

سلامٌ عليك سميح وعلى الأبرارِ من أبناءِ وطنِنا الذين استُشهِدوا من أجل أن تحيا فلسطين. لن نوفيَك حقَّك إلا بالوعدِ بأن لا ندفنَ أحلامَنا، وأن نعملَ لكي تصبحَ حقيقةً، لتعيشَ فلسطين وأهلُها فرحاً أبدياً كما أردتها أن تكون.

فلْتطمئنَّ يا أبا الحرْفِ النابضِ بالمقاومة والأمل، وأنت راقدٌ هناك حيث التلةُ المرتفعةُ في الرامةِ المطلةِ على سهولِ وتلالِ الجليل، بأننا حتما عائدون عائدون، وبأننا في أرضِنا باقون صامدون، رغمَ كلِّ محاولاتِ التهويد والترانسفير والتطهيرِ العِرقي.

مثلما انتصرت غزةُ على الموتِ وانتصر الدمُ على السيف، ينتصر الشاعرُ على النسيان. كلماته هي مقاومته تظلُّ حيَّةً في قلوبِ الأجيالٍ من بَعدِه. وكلماتُ سميحٍ ستبقى في صدورِ المقاومين الصامدين من أبناءِ فلسطين، ستبقى سلاحاً مشهرا في وجه العدو يرشدهم لطريق الحق حتى تبزغ شمس الحرية.

في الختام، أعترف أنه يصغر الكلام، وتضيع الحروفُ في رثاءِ شاعرٍ ومناضلٍ كبيرٍ مثلِ سميح القاسم.

وتبقى أشعارُهُ هي الأبلغُ والأصدقُ في الحديثِ عنه وفي التعبيرِ عمَّا يجولُ في خواطرِنا نحوَه…

«ربما تسلِبُني آخرَ شبرٍ من ترابي،

ربما تُطعِمُ للسجنِ شبابي،

ربما تُطْفِئ في ليليَ شُعلةْ

ربما أُحرَمُ من أُمِّيَ قُبلةْ

ربما تنغم من ناطور أحلامي غفله

ربما تَحْرِمُ أولاديَ يومَ العيدِ بَدلةْ،

ربما ترفع من حولي جدارا وجدارا وجدارا

يا عدوَّ الشمسِ،

لكن…لن أُساوِمْ،

وإلى آخرِ نبضٍ في عروقي…سأقاومْ».

نشر في جريدة “الأخبار” اللبنانية : الإثنين ـ 10/8/2015

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *