الخميس 28 مارس, 2024

ريف حوماني شاعرة الحبّ المستحيل

ريف حوماني شاعرة الحبّ المستحيل

شوقي بزيع

7ec215aacf7440848044e32569f33616لا تحمل مجموعة الشاعرة اللبنانية ريف حوماني «لا شيء يشعر اللغة بالكفاية سوى الموت» شيئاً من سمات الأعمال الأولى، التي يعوزها في الأعم الأغلب النضج وامتلاك الأدوات وتبلور الهوية. فمعظم هذه الأعمال، عدا استثناءات قليلة، تبدو تمريناً على الشعر أكثر من كونها شعراً مكتمل العناصر. وهي بالتالي تكتسب قيمتها مما تشي به أو ما تؤشر إليه وتختزنه في طياتها من وعود المستقبل، لا مما هو متحقق في الواقع. غير أن الأمر مع حوماني مختلف تماماً، بحيث لا نشعر كقراء بأننا إزاء تجربة أولى لشاعرة مبتدئة، بل نجدنا منذ بداية ديوانها وحتى نهاياته واقعين في شرك نوع من الدوار أو العصف اللغوي الذي لا يترك لنا على امتداد ما يزيد عن الصفحات المئتين فرصة للتوقف والراحة والتقاط الأنفاس. والأرجح أن الشاعرة تدين بلغتها العالية تلك، إضافة إلى قوة الموهبة وعمق التجربة، إلى سلالة طويلة من شعراء «العائلة» الذين تعاقبوا على حمل شعلة التخييل واحداً بعد الآخر، بدءاً من محمد علي الحوماني صاحب «حواء الملهِمة» وأحد أفضل شعراء الجنوب اللبناني في مطالع القرن الفائت، وليس انتهاء بأبيها سعيد حوماني الذي نقل إليها بدوره جينات الشعر وبذوره ونيرانه.

سيكون من الصعب بالطبع أن ندخل في مناخات المجموعة وموضوعاتها وعوالمها من دون أن نتوقف قليلاً عند دلالات عنوانها الطويل «لا شيء يُشعر اللغة بالكفاية سوى الموت». فليس من قبيل المصادفة المجردة أن تجعل ريف حوماني من الشعور بالاكتفاء حالة ملازمة للغة لا لصاحبتها، كما لو أنها تريد عبر المجاز المرسل الذي يُستبدل فيه المسبِّب بالمسبَّب أن تؤكد أنها كائن لغوي بامتياز، وعلى أن اللغة بالذات هي هويتها ومرآة حياتها حياتها وعلة وجودها الأهم. وإذا كانت لغة الشعر مفتوحة على ضروب من المصادفات شبيهة برمية النرد، على ما يذهب مالارميه، فإن من الطبيعي أن تضيق الحياة بسعة الاستعارة وأن يتكفل الموت وحده بوضع النقطة المناسبة عند آخر السطر. وبما أن الحب في تجلياته العاطفية والنفسية والجسدية هو المحور الأهم وشبه الوحيد لقصائد المجموعة فقد كان حريًّا بالشاعرة أن تستبدل اللغة به لكي يصبح العنوان «لا شيء يُشعر الحب بالكفاية سوى الموت». على أن هذا الاستبدال لم يكن بمثابة زلة قلم ولم يأت عفو الخاطر، بمقدار ما هو ناجم عن افتتان الشاعرة المزدوج بالكتابة والحب، بما يجعلهما وجهين لجوهر واحد وحقيقة واحدة.

على أن ريف حوماني في باكورتها الشعرية لا تريد أن تكون مجرد ملهِمة شعرية للرجل الذي تحب، ولا تريد أن تكتفي كجدتها دعد بأن تقايض الشعر بالشرع وتزوج نفسها لمن يمنحها القصيدة الأكمل، بل تريد في الآن ذاته أن تسترد نصيبها من اللغة كما فعلت شهرزاد من جهة، وأن تكون امتداداً للنساء لسافو وليلى الأخيلية وولادة بنت المستكفي وسيلفيا بلاث وفروغ فرخزاد وغيرهن من النساء الجريئات اللواتي لم يترددن في إعادة كرة العشق إلى مرمى الرجل، من جهة أخرى. أما ما يشيع في بعض النصوص من نزوع شهواني وإيروتيكي، فتتكفل بالتخفيف من حسيته الظاهرة قدر مواز من التبتل وطهرانية الروح التي تلامس حد الاتحاد الصوفي بالآخر المعشوق. كما نلحظ بوضوح نوعاً من الالتباس القائم بين أبجدية اللغة وأبجدية الجسد الأنثوي، بما يجعلهما يتناوبان على المعنى ويتكاملان في الدلالة والإيحاء: «أنا الأصل / والفروع مرايا وزغاريد لانكسارات الحروف بعدي / ما من علامة في آخر الكلمات تفضح نهديّ / ولا الريح تقلّبني على حرفٍ/ يقصُرُني على امتداداتي / وإذا ما أدرتُ وجهي إلى الشرق / أبحتُ المعاجم بلاداً للنساء / وصرتُ النفَس الذي يمتدّ بينهنّ / هذا النحت المجنون في سبائك اللغات / لا يليه سوى جيدي وهذياني».

بكل جوارحها تكتب ريف حوماني الشعر وتحشد له كل طاقتها التعبيرية وكل ما تختزنه في داخلها من وساوس وتهيؤات. فالجمل تتلاحق عندها بلا انقطاع، وتتلاحق معها الصور والتداعيات الهذيانية والأخيلة المحمومة. كأننا منذ بداية الديوان وحتى نهايته أمام نص واحد لا تسمح كثافاته وتواتراته العصبية المشدودة بالتقاط الأنفاس. ومع ذلك فنحن لا نستطيع أن نضع تجربة حوماني في خانة اللاوعي والتداعي السوريالي البحت، لأن النصوص تفصح عن جهد تأليفي شاق وعن اهتمام بالغ بالصياغة والتركيب وتناظرات الجمل. كما تحشد الشاعرة لعملها حقلاً واسعاً من المفردات المتداولة وغير المتداولة، ومن النعوت والتسميات والاشتقاقات الصرفية الغريبة والجريئة، من مثل «أقعْقع وأرهْره وتترنْده وأرهْوج وأنْخزع وتقرمدتُ وتعثْعثُ ومشمشتْ والدجية والنضائض والمزازة» وعشرات من الكلمات المماثلة. وإذا كانت هذه الميزة تنم عن تضلّع الشاعرة العميق بلغة الضاد وتراكيبها وأسرارها، وعن إثراء ملحوظ لمعجم الشعر المتداول وبحث دؤوب عما هو غير مستنفد ومأهول من الألفاظ ,الا أن الأمر يلامس في بعض الأحيان حدود الغلو والاسراف, بما يقلل من عفوية الأسلوب وليونته ورشاقته . ولكن هذه الهنة البسيطة لا تحجب بأي حال ذلك الدفق العاطفي الحار الذي يقف وراء معظم القصائد والمقطوعات , ولا تلك الكهرباء التي تسري في ثنايا الخطاب الشعري وتضاعيفه وخلاياه. فهذه المرأة التي لم يستطع الأطباء تذكيرها أو تأنيثها، على ما تقول في إحدى القصائد، تحاول أن تنشئ عبر الحب والكتابة سفْر تكوين آخر تبدأ فيه من العدم رحلة وجودها الشاقة على الأرض: «دعوني أرقّق هذا العدم / الذي يشيد في أقبية الوحشة فاصلةً بين لغتين / وأجذّ شَعري الطويل الأعمى / الذي يسعى إلى سديم النهايات / وأجمع روحي في فهرس يشرف على الكون». كما أنها تحاول أن تنشئ نشيد أناشيدها الخاص المستل من براءة الفطرة الأم ومن رجْع الصبوات الكليلة: «لمن أمنح لغة حبيبي؟ / لغة الوحشة التي استمكنتْ في الضوء والريح / لمن أمنح تجنُّنها / رعونتها / فصاحتها / تلك الشهية الفتيةُ / التي لا تنقاد في المضغ حبّاً / خذني يا حبيبي بزمام قبلتك البعيدة / بزمام حروفك المهموسة المهجورة / بزمام وداعك المؤجل».

من الجائز أن يسأل القارئ نفسه بعد الفراغ من قراءة المجموعة عما اذا كان من تتوجه إليه الشاعرة، بلغة المخاطَب حيناً وبضمير الغائب حيناً آخر، رجلاً من بنات أحلامها المحضة أم رجلاً واقفاً على أرض الحقيقة، أم هو خليط من كليهما معاً. ويحق للمرء أن يتساءل أيضاً عن نصيب اللحم والدم من الرجل المعشوق وعن نصيب اللغة منه. إنها تقف في آخر الطريق وتهتف بمن تحب: «قف مطيّباً بالرياحين وطفّف المكيال/ طفّف الشهوات / ليس لأحد أن يقرب نهدي من الامتلاء / قف مع الشمعة والنبيذ والدمية المشبوهة / وردّ لي الحب صاعاً بصاع». حتى إذا انقطعت بها السبل وضاقت العبارة بالرؤيا بدا لها الموت رمزاً لاتحاد الفحولة باللغة عند التخوم الأخيرة للوجد، فهتفت به قائلة: «أيها الموت إني متّعتك نفسي/ وإني جاعلةٌ فيك عشقاً / يمتد من طين اللغة الى روحي / هل تهمد اللغة حين تشرب حليب القبور؟ / لا شيء يشعر اللغة بالكفاية سوى الموت».

جريدة الحياة: 30/01/2018

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *