الخميس 28 مارس, 2024

رواية قواعد العشق الأربعون

5111

الرّاوي والزمن ومستوى الأيدلوجي في رواية قواعد العشق الأربعون

الدكتورة دريّة فرحات

doreyah-1تعريف بالرّواية:

        “قواعد العشق الأربعون” للكاتبة الترّكيّة إليف شافاق، رواية تمزج بين الحاضر والتاريخ، هي رواية داخل راوية ، تروي قصتين متوازيتين تعكس إحداهما الأخرى عبر ثقافتين مختلفتين جدا وسبعة قرون متداخلة.

تنفتح الرّواية باستهلال تقدّم فيه الكاتبة لمحة عن بطلة روايتها التي تطلب الطلاق بعد مضي عشرين سنة على زواجها، فكان هذا الطلب هو الحجر الذي أُلقي في بحيرة حياتها، هذا الحجر – كما تذكر الكاتبة-، إذا ألقيناه في النّهر فإنّ ” النّهر سيعتبره مجرّد حركة أخرى من الفوضى في مجراه الصّاخب المضطرب لا شيء غير عادي. لا شيء لا يمكن السيطرة عليه أمّا إذا سقط الحجر في بحيرة، فلن تعود البحيرة ذاتها مرة أخرى”[1]. ولم يكن هذا الحجر إلاّ الحبّ الذي بغت إيلا روبنشتاين، حبّ لرجل مختلف معها اختلافًا كبيرًا.  

واستطاع هذا الحجر أن يعكّر حياة إيلا الرتيبة، فهي ربة منزل كانت قد حازت على الإجازة في الادب الانجليزي، تعيش في نورثامبتون، أصبحت في عقدها الرابع، وبدأت تخطو خطواتها الأولى مع عمر الأربعين، وهي زوجة لطبيب يدعى ديفيد، لها من الأولاد فتاه جامعية تدعى جانيت، ومراهقان توأم أورلي وآفي. ومع ذلك فالسّعادة لم تسكن قلب إيلا، فهي تعترض على علاقة ابنتها بزميلها في الجامعة، وهي تعاني بعلاقتها مع زوجها، وترى أنّه بعد سنوات من الزواج فلا ضرورة أن يحتلّ الارتباط العاطفي أولية في حياة المتزوجين، خصوصًا أنّها تعرف متى يخونها زوجها لكنّها تتجاهل ذلك.

لكنّ الرّواية لا تقتصر على سرد ما يحدث مع إيلا وعائلتها، إنّما تنقلنا إلى عالم تاريخيّ حافل بالأحداث، من خلال الرّواية الثانية التي تحمل اسم “الكفر الحلو” لكاتبها عزيز أ.ز زاهار، وما هذه الرّواية سوى الرواية التي طُلب من إيلا أن تقدّم مطالعة عنها للوكالة الأدبية التي تقع في بوسطن وذلك ضمن عملها كقارئة غير متفرغة، هذا العمل الذي وجدته قبل أسبوعين من عيد ميلادها الأربعين.

هذه الرواية داخل الرّواية (الرواية الإطار) أو الحبكة الثانية، تشكّل وثيقة تاريخية عن فترة تعود إلى القرن الثالث عشر المفعم بالصّراعات الدّينيّة، وفي فترة مضطربة في منطقة الأناضول ففي الغرب احتل الصّليبيون القسطنطينيّة وعاثوا فيها فسادًا وفي الشّرق انتشرت جيوش المغول بقيادة العسكري جانكيز خان، فترة من الفوضى حيث ” كان المسيحيون يقاتلون المسيحيين والمسيحيون يقاتلون المسلمين، والمسلمون يقاتلون المسلمين”[2]، وفي وسط ذلك عاش عالم إسلاميّ جليل يعرف باسم جلال الدين الرّوميّ ويلقب بمولانا يُحيط به آلاف المريدين، ويلتقي بشمس التبريزي الدرويش الجوال، فتتطورّ العلاقة بينهما وتتغيّر حياتهما.

والسّؤال المطروح ما هو الرابط بين أحداث الحبكتين، وما هو القاسم المشترك بين زمن القرن الثالث عشر وقرن الواحد والعشرين؟

إنّ الإجابة على هذه الإشكاليّة تقودنا إلى مقاربة الرّواية سرديًّا، والبحث عن الرّاوي موقعه وعلاقاته، ودراسة مستوى الزّمان والأيدلوجيّ للرّواية.

الرّواي: موقعه وعلاقاته

تتألّف رواية “قواعد العشق الأربعون” من خمسمائة صفحة يتناوب على روايتها رواة عدّة، بنقسمون إلى فئتين: فئة تمثّل زمن الحاضر، والفئة الثّانية تمثّل زمن التاريخ. والملاحظ اقتصار رواة الزّمن الحاضر على راوٍ خارج الأحداث يتحدّث عن إيلا وعن الكاتب عزيز، أمّا رواة زمن التّاريخ فقد وصل العدد إلى خمسة عشر راوٍ، وهم رواة يمثّلون شخصيات الرّواية المشاركة في صنع الأحداث.

ويتم توزيع الرّواة كما يأتي: الراوي من خارج الأحداث ينقل لنا حياة إيلا وعلاقتها بزوجها وأولادها، إضافة إلى علاقتها التي بدأت مع كاتب الرّواية الأخرى أي عزيز، وقد بدأ التّواصل بينهما عبر الرسائل الألكترونيّة. ويقوم شمس التّبريزي وهو الشّخصية الرئيسة في رواية عزيز بنقل الأحداث، يساعده في ذلك كلّ من الرّومي وعائلته أي زوجه كيرا وابنيه سلطان ولد وعلاء الدّين، وابنته بالتبني كيميا، إضافة إلى شخصيات تسهم في رسم الأحداث، وهي : السّيد/ والتّلميذ، وحسن المتسوّل وسليمان السّكران والبغي ورد الصّحراء، وبيبرس المحارب وعمّه.

ويهدف هذا التّعدّد إلى تقديم عالم روائيّ يمثّل وجهات نظر متعدّدة متشابهة ومتعارضة، منتظمة في سياق ينشئه راوٍ من الخارج يفتتح الرّواية باستهلال يرسم فيه معالم التّغيير التي يمكن أن تحصل في حياة الإنسان رابطًا بينها وبين الحجر المُلقى في بحيرة فتتأثر تموّجاته وتتمدّد، وهذا الاستهلال يضع القارئ في الجو العام للرّوايّة، ونرى هذا الرّاواي يعود في بداية رواية عزيز إلى تقديم يعرض فيه الوضع التّاريخي للفترة التي عاش فيها الرّومي والتبريزي.

وربما شعر الرّاوي/ الكاتبة بعدم قدرة القارئ لتمييز الرّواة، فكان ذكر لاسم كل راوٍ في بداية ما سيرويه، ولم يكن تقسيم رواية الأحداث على الرّواة عشوائيًّا، إذ إنّ كلّ مشهد أو فصل يرويه أحد الرّواة، يكمل لنا ما بدأه الآخر فيكتمل الحدث من خلال تتالي الفصول، فتعدّد الرّواة جاء متشابكًا متماسكًا وكلّ راوٍ يكمل جانبًا من الحكاية أو يُضيف إليها وجهة نظر جديدة، فتتمّ الرؤية من عدة زوايا أو وجهات نظر.

وقد يستعمل الرّاوي ضمير الغائب وهذا ما رأيناه خصوصًا مع الفصول التي عُنونت باسم إيلا : ” لم تكن تتذمّر. فهي الزّوجة المنهمكة غالبًا في أعمالها المنزليّة”[3]، وفي موضع آخر ” لأنّه على الرّغم مما يقوله البعض، فإنّ العشق ليس مجرّد شعور حلو مقدّر له أن يأتي ويذهب بسرعة. فغرت إيلا فمها عندما أدركت أنّ هذه العبارة نقيض العبارة التي قالتها لابنتها في المطبخ في ذلك اليوم”[4]، ومنها أيضاً ” أمّا في هذا اليوم من شهر أيار فقد كانت واثقة من نفسها”[5]، أو ” كانت تتوجّه إلى المطبخ، وكانت تقول لتفسها إنّ وجبة الفطور الجيدة تحدّد مسار بقية اليوم”[6].

وقد يسمح الرواي لإيلا أو عزيز إلى تبادل الكلام بينهما عبر الرسائل التي تواترت بينهما واستطاعت أن تقربهما من بعضهما البعض، وهو ما أكّده الرّاوي/ الكاتبة في الاستهلال:” لم يكونا يعيشان في المدينة نفسها، ولا حتى في القارة ذاتها. ولم تكن تفصلهما أميال كثيرة فقط بل كانا كذلك مختلفين اختلاف اللّيل والنّهار. وكان أسلوبا حياتهما مختلفين إلى درجة استحالة أن يتحمل أحدهما وجود الآخر، فما بالك بأن يحبّ أحدهما الآخر، لكنّ ذلك حدث فعلًا. وقد حدث ذلك بسرعة كبيرة لم يتح لإيلا فيه وقت لتدرك حقيقة ما يجري، ولكي تحذر من الحبّ”[7].

وإذا كان الرّواي يستعمل الغائب إلّا أنّه يتيح لشخصياته بأن تتحدّث، وخصوصًا من خلال الحوارات التي برزت في الرّواية، فنستطيع أن نكتشف نفسية الأبطال ومشاعرهم، ومن الأمثلة على ذلك الحوار الطويل[8] الذي دار بين إيلا وميشلين مسؤولة الوكالة الأدبيّة، وفي خلال هذا الحوار نرى الراوي أحيانًا يأخذ مكان الشخصية ويعبر عن مشاعرها، فيكشف لنا تردد إيلا ” لكنّ الحقيقة هي أنّها لم تكن واثقة من رغبتها في تقييم هذا المخطوط؛ فقد كانت في البداية شديدة الحماسة والثّقة. وكانت سعيدة لأنّها أوّل شخص يقرأ رواية لكاتب مغمور لم تنش بعد، وأن يكون لها دور، مهما كان صغيرًا، في تقرير مصير هذا الكاتب. لكنّها لم تعد واثقة الآن من أنّها ستتمكّن من التّركيز على موضوع لا علاقة له بحياتها مثل موضوع الصّوفيّة، تدور أحداثه في زمن يعود إلى القرن الثالث عشر”[9].  لنراه يكشف عن موقف ميشيل، فيقول ” لا بدّ أنّ ميشيل قد تبيّنت تردّدها”[10]. أو نراه  في موقف آخر يتدخّل بشكل مباشر ليعلن موقفًا يرتبط بالحبّ ” ولمّا كان العشق جوهر الحياة وهدفها السّامي، كما يذكّرنا الرّوميّ، فإنّه يقرع أبواب الجميع، بمن فيهم الذين يتحاشون الحبّ – حتّى الذين يستخدمون كلمة رومانسيّة كإشارة إلى الرّفض والاستهجان”[11]، أو في موضع آخر يذكر الرّاوي/ الكاتبة ” هكذا هي الحياة. فعندما تخبر أحدهم الحقيقة، فإنّه يكرهك وكلّما تحدّثت عن الحبّ، ازدادت كراهيته لك”[12].

وإضافة إلى الرّاوي من الخارج فهناك الرّواة الأخرون من داخل رواية “الكفر الحلو” فكلّ راوٍ منهم يروي ما مرّ به، وما يتصوّر حدوثه، مستخدمًا ضمير المتكلّم، فكلّ واحد يقوم بسرد ووصف وتأمّل الأحداث من منظوره الشّخصي، وقد ساهم ذلك بتطوّر الأحداث وتنامي الحبكة.

زمن السرد في الرّواية:

يمثّل الزّمن عنصرا من العناصر الأساسيّة التي يقوم عليها فنّ القصة، فهو محور الرواية وعمودها الفقريّ الذي يشدّ أجزاءها. إنّ طريقة بناء الزمن في النص الروائي، تكشف تشكيل بنية النص والتقنيات المستخدمة في البناء، وتاليا يرتبط شكل النص ارتباطًا وثيقًا بمعالجة عنصر الزمن، لذلك يمكن عدّ القص أكثر الفنون التصاقًا بالزمن، فلو انتفى الزّمن، أنتفى الحكي في الرواية.

وتبدو علاقة الزمن بالسرد واضحة في معنى كلمة السرد نفسها، وبتضمن مفهوم السرد كما يقول عبدالمجيد زراقط: أربعة عناصر أولها ترتيب الأحداث وتنظيمها، وثانيها تتابع هذه الأحداث متّسقة جيدة السياق، وثالثها تشكيل الزمن الإنساني/ ديموماته، ورابعها يمثّل بناء مخصّصًا لتنظيم تجربة الإنسان الداخلية وهذا البناء هو نظام خاص تتميز به رواية ما من غيرها وهو ما ينبغي أن تتمّ دراسته تحت عنوان : بناء الزمن الروائي، آلية السرد.

يمكن تحديد نوعين للزمن هما:

زمن القصة : يعني في بعض ما يعنيه، الأحداث حسب وقوعها وفق تسلسلها الزمنيّ، فالحدث الأقدم هو الذي وقع أوّلًا، هو الذي يؤدّي إلى نتائج تنجم عنه. إنّ زمن القصة محكوم بالمنطق، أي بالأسباب والنتائج، وهو مقيد بالترتيب المتتالي، فلا تأخير لحدث لاحق ولا تقديم لحدث سابق، إنّ الأحداث في زمن القصة مرهونة بأوقاتها.

زمن السرد: فقابل للإخلال به، إنّه لا يخضع أصلًا لمبدأ التّعاقب والتّسلسل المنطقيّ، والأحداث فيه يُمكن أن تذكر غير متتابعة حسب وقوعهان فقد يتكلّم المؤلّف على حدث قديم ثمّ ينتقل بعد ذلك إلى حدث قريب، إنّ زمن القصة مقيّد بينما زمن السرد حرّ.

        وينشئ انزياح الزّمن مفارقات سرديّة من استرجاع لأحداث ماضية واستباق لأحداث لاحقة، ومن استغراق زمنيّ: ديمومة، وديمومات أحيانًا فتتقاطع الأزمنة: الماضي والحاضر والمستقبل.

وعند دراسة زمن القصة في رواية “قواعد العشق الأربعون”، نلحظ أنّ الرّواية تنفتح على اللحظة الراهنة التي سجّلتها الكاتبة بتاريخ 17 أيار 2008، وتتوالى الأيام مع إيلا لندرك أنّ أحداث الرّواية تدور في حيّز زمانيّ يمتدّ إلى ثلاثة أشهر أي من أيار إلى آب، لكنها تنطلق في الفصل الأخير لنرى أنّ الزمن قد قطع سنة كاملة فنصل إلى السابع من أيلول من عام 2009. ويتداخل مع زمن القصة هذا لجوء الكاتبة إلى انزياحات في الزّمن فتعتمد على الاسترجاع، ويعني استعادة ما حدث في الماضي، ما سبق أن حدث. والرّجعات هي عودات إلى أحداث سابقة يقتضيها إيضاح الأحداث الراهنة أو إكمال رسم شخصيات الرّواية، بعد إثارة فضول القارئ، ولإيهامه بحقيقة وجود تلك الشّخصيات. والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها:

  • رجعة تعود فيها البطلة إلى مرحلة الطفولة وهي في السّابعة من عمرها، ومن خلالها تتذكّر إيلا كيف أنّها وعدت نفسها بأنّها عندما تتزوج فإنّها ستسعد زوجها،وألّا تفشل في زواجها مثل أمّها، وندرك أنّها حمّلت أمّها مسؤولية انتحار أبيها[13].
  • رجعة إلى مراهقتها التي تميزّت بالهدوء والابتعاد عن العلاقات الجنسيّة كالفتيات الأخريات، فهي لم تعرف التّمرّد في حاضرها كما لم تتمرّد في مراهقتها[14].
  • رجعة تعود فيها إلى مرحلة الجامعة وكيف أدمنت فيها على الرّوحانيات الشّرقيّة وقرأت عن البوذية والطّاويّة[15].  

ولم تقتصر الرّجعات عليها، إنّما من خلال رسائل عزيز[16] إلى إيلا  تعرّفنا الكاتبة على عزيز زهارا وعلى تحوّله من المسيحية إلى الإسلام وكيف أصبح صوفيًّا وعن علاقته أيضًا بمحبوبته وتأثير وفاتها عليه ما دفعه إلى حبّ التّرحال.

وفي مقابل الرّجعات اعتمدت الكاتبة في تقنيات زمن السّرد على الاستباق، ويعني استشراف أحداث لاحقة لبدء زمن الرّواية، وزمن الحدث، زالاستباقات قوامها الإخبار مسبقًا بأحداث سوف تقع لاحقًا، أمّا وظيفتها فتحضير القارئ لتقبّل ما سوف يقع، وإظهار الهواجس التي تسيطر على شخصية البطل، أو غيره من شخصيات، ومن ذلك ما ورد في الاستهلال عندما أشارت الكاتبة إلى أنّ الانقلاب الذي سيحدث في حياة إيلا كان بسبب الحبّ ومهّدت لتبيان الاختلاف بينها وبين من ستحبّ[17].

وإذا بحثنا في زمن سرد رواية “الكفر الحلو” التي كان على إيلا تقييمها، فإنّ الكاتبة بدأت القص في زمن يبدأ من سنة 1252، وفي اللحظة التي يقتل فيها التّبريزي على يد قاتل مأجور[18]، وكان القاتل هو الرّاوي في هذا المشهد، وفي المشاهد الأخرى تعود الكاتبة إلى تسلسل الزّمن والعودة إلى سنة 1242 لتسير الأحداث بتوالي السنوات وصولًا إلى 1248، ومن الملاحظ أنّ زمن السّرد يفارق زمن الأحداث، فيعدّل الزمن مساره، فيبطئ أو يسرع، يقفز أو يقف يمتدّ أو يقصر، يتكسّر أو يتقطّع أو يستدير أو يتّخذ مسارًا لولبيًّا حلزونيًّا[19]، لتنتهي الكاتبة إلى عام 1260 وفيها يعلن الرّومي شاعريته وأنّه على الرّغم من فقده شمس إلّا أنّه يعلن استمرار الصّوفيّة ” لأّنه مقابل كلّ صوفيّ يموت، يولد صوفيّ آخر في مكان ما في العالم. إنّ ديننا هو دين العشق وجميع البشر مرتبطون بسلسلة من القلوبز فإذا انفصلت حلقة منها ، حلّت حلقة أخرى في مكان آخر، ومع موت كلّ شمس تبريزيّ، يظهر شمس جديد في عصر مختلف، باسم مختلف. إنّ الأسماء تتغيّر، تأتي وتذهب، لكنّ الجوهر يبقى ذاته”[20].

وتمّ الاعتماد أيضًا على الرّجعات للتعرّف على التبريزي ومن حوله، ومن ذلك:

  • رجعة تتعلّق بشمس التّبريزي وفيها تعرفنا على طفولته وإلى علاقته المتبادلة مع الله وكيف كان يكلّمه، وصولًا الى تحوّله إلى درويش، وإلى رحلاته التي ساهمت في تشكيل مدونة ” القواعد الأربعون لدين العشق” التي لا يمكن تحقيقها إلّا من خلال العشق وحده[21].
  • رجعتان تتعلّقان بكيما الأولى منها تسرد فيها حكايتها مع أسرتها الحقيقيّة، والتنبؤ لها بأنّها ستصبح عالمة، وانتقالها للعيش بيت الرّومي وتبنيه لها[22]. وفي الثانية تعود بذكرياتها الى طفولتها[23].
  • رجعة تتعلّق بكيرا زوجة الرّومي، وتنقل في هذه الرّجعة زواجها وعلاقتها به من خلال اهتمامها بمكتبته ورفضه ذلك، فأدركت بأنّ عالم الكتب لم يكن ولن يكون لها[24]
  • رجعة تتعلّق بالبغي وردة الصّحراء تنقل لنا فيها مأساتها التي قادتها إلى ممارسة البغاء[25].

إنّ شخصيات الرّواية لم تتخلّص من ماضيها، فكان الزّمن قاعدة من قواعد العشق التي قدّمها التّبريزي، ويذكر فيها، “إنّ الماضي تفسير/ والمستقبل وهم، إنّ العالم لا يتحرّك عبر الزّمن وكأنّه خطّ مستقيم، يمضي من الماضي إلى المستقبل. بل إنّ الزّمن يتحرّك من خلالنا وفي داخلنا، وفي لوالب لا نهاية لها”[26].

المستوى الأيدولوجي للرّواية:

        إنّ الرواية تحرّك فضول القارىء بسهولة لاكتشاف أسرار قصتين تدوران في الفلك نفسه. هما قصتا حب، ولو أن التشبيه قد يبدو غريبًا، فالقصة الأولى هي عشق جلال الدين الرومي لشمس التبريزي. أما قصة الحب الثانية فهي عشق إيلا لعزيز. برعت الكاتبة في إدخال القصتين ببعض وتشابكهما، ولكن الأمر بدأ يصبح مملاً،لاسيما أن شخصيات رواية جلال الرومي تتحدث عن نفسها، أما شخصيات ايلا فهي تروى وتوصف.

رواية “قواعد العشق الأربعون” رواية تعتمد في بنائها على اسقاط التّاريخ على الواقع الحديث، نحن في عصر يسوده روح التّعصب والكفر، ولعل الكاتبة التركية أليف شفق وجدت في حكاية جلال الدين الرومي والتبريزي ما يعكس هذا الواقع ويذكر عزيز زاهار أنّ رواية الكفر الحلو ” في عصر سادته روح التّعصب والنّزاعات الدّينيّة، دعا إلى روحانيّة عالميّة شاملة، مشرّعًا أبوابه أمام جميع البشر من مختلف المشارب والخلفيات. وبدلًا من أن يدعو إلى الجهاد الخارجي، الذي يعرف بالحرب على الكفار الذي دعا إليه الكثيرون في ذلك الزمان، تمامًا كما يجري في يومنا هذا – دعا الرومي إلى الجهاد الداخلي وتمثّل هدفه في جهاد الأنا، وجهاد النفس في قهرها في نهاية الأمر”[27].

        هي رواية إيلا المرأة اليهودية، تعارض زواج ابنتها من حبيبها المسيحيّ، فتتماهى مع شخصية شمس التبريزي، وترتبط بعلاقة أدبية وجدانية مع الكاتب عزيز المسيحي الذي أعلن إسلامه. فكانت رواية تعرض لهذا التنّوع الطائفي معلنة أنّ الحبّ هو طريق الخلاص فالحب هو العلة وهو المعلول، وهكذا كان الرّومي، فهو ليس من الشرق ولا من الغرب، إنّه ينتمي إلى مملكة الحبّ. إنّه ينتمي إلى المحبوب[28]. ولهذا فإنّ إيلا بطلة الرواية الأساسية كانت “تهفو إلى الحبّ في أعماقها”[29]، وهذا الحبّ هو الذي يجعلها قادرة على البقاء حازمة وصلبة في مواجهة الشّدائد.

        ويعلنها التبريزي أنّ الإنسان إذا سجد كلّ يوم على سجادة صلاة، “وليس في قلبه مكان للمحبة فما الفائدة من كلّ هذا العناء؟ فالإيمان مجرد كلمة، إن لم تكن للمحبة، في جوهرها فإنه يُصبح رخوًا مترهلًا يخلو من أي حياة غامضا وأجوف ولا يمكنك أن تحس به حقًا”[30]. تبحث الرّواية في الخلاص من الشّدائد والصعاب عبر العودة إلى الحب، ورأت الكاتبة في الصوفية النجاة مما يعانيه عصرنا الحالي، فكانت القواعد الأربعون في العشق للتبريزي مقصد الكاتبة وغايتها التي نقل عبرها ما تريد الوصول إليه.

كلمة أخيرة:

        لقد اشتهرت هذه الرّواية، فذاع صيتها في فترة زمنية وجيزة، ونالت الكاتب من خلالها شهرة عالميّة، لكنّ المتمعن في الرواية يلمس اهتمام الكاتبة بنقل التاريخ واقتباسه واسقاطه على تاريخنا، وكأنّ ما قامت به هو إعادة لسرد هذا التاريخ بأمانة، وتذكر الكاتبة ذلك فتقول حينما تقوم بالكتابة عن شخصيات تاريخية  تشعر بنوع من الخوف في البداية ، فهي ليست كتابة عن شخصيات متخيلة، لذا ومن أجل الحصول على وقائع صحيحة قمت بالكثير من البحوث، لم يكن الأمر جديدا بالنسبة لي فقد كتبت بحثي في رسالة الماجستير عن هذا الموضوع وعملت عليه منذ بداية العشرينات من عمري. لذا كانت لديّ خلفية عن الموضوع نوعا ما، مع ذلك وبعد فترة من القراءة المكثفة والبحث توقفت عن ذلك وركزت فقط على روايتي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 7.

[2]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 31.

[3]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 12.

[4]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 26.

[5]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 53.

[6]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 135.

[7]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 10.

[8]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 21 إلى 23.

[9]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 22.

[10]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 22.

[11]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 27 .

[12]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 52 .

[13] إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 138 .

[14] إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 193 -194.

[15]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 215.

[16]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 311/ 331-334/  338-341.

[17] إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 10.

[18] إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 33- 39 .

[19]  عبد المجيد زراقط. في بناء الرواية.

[20]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 492 .

[21] إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 58- 61 .

[22]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 250 .

[23]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص  288.

[24]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص  247-249.

[25]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص  .

[26]  إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 317 .

[27] إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 32.

[28] إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 270 .

[29] إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص  75.

[30] إليف شافاق، قواعد العشق الأربعون، ص 266 .

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *