الجمعة 29 مارس, 2024

تموز على سن الثقافة

تموز على سن الثقافة

محمد علي شمس الدين

chms

خط الحمى الازرق

البقعة الصغيرة المحتلة في مزارع شبعا، وحتى تلك الشجرة التي دارت حولها معركة هناك، هي واضحة وفي مرمى المقاومة. نعم المقاومة تقاتل حتى على راعي غنم مخطوف. على شجرة واقفة. على جثة شهيد.. المقاومة تقاتل على الحمى.. والحمى الذي نسيه العرب في حروبهم المتقطعة مع إسرائيل، هو معنى من أعرق المعاني العربية. أستطيع القول إن العرب اليوم، بلا حمى. لكن المقاومة لها حمى. في الجاهلية.. كان الحمى يعني الأرض والمرأة وحتى الفرس…. واللائذ والمستجير…. كان باختصار شيئا له صلة بمعنى الكرامة…. “إذا بلغ الفطام لنا صبي/ تخر له الممالك ساجدينا” لا تعني شيئا أكثر من حدة الحفاظ على الحمى… وفي الاسلام زادت حدة المعنى، قل تعمقت وتسامت، فلم يعد الموت دفاعا حتى عن “عقال بعير” هو قتال عصبية، أو حمية (جاهلية) بل صار طريقا إلى الشهادة. والشهادة أعلى مراتب الموت في الاسلام.

ليس الخط الازرق الذي خطته الامم المتحدة على طول الحدود من الناقورة إلى تخوم جبل الشيخ بعد حرب 1948، سوى خط وهمي للحمى.

كان الجندي الاسرائيلي يفشخ بحذائه على الارض ويدوس خط الحمى الازرق في أي وقت يشاء وأية نزوة عسكرية تلوح له. كان يوقت المواقيت، ويرتب الانتصارات والهزائم، ويصنع الحروب الصغيرة والكبيرة… وكانت تتراكم النجوم على أكتاف جنرالاته الصلفاء… وتتراكم بقع الدم على أرضنا… وتنمو في الصدور حمية الارض الموطوءة وحمية الحمى المستباح.. الأرض الموطوءة أنثى والحمى عرض. هي اللغة التي تصيب… وأنا لا أكتب قصيدة. ولكن المقاومة كتبت ما كنت أدور حوله، وأراه وفي شهر أيار من عام 2000 بعد المسيح كان جنود إسرائيليون يهرولون إلى دباباتهم وينسون حليب أمهاتهم الذي رضعوه ويتركون احذيتهم وسراويلهم في ثكنات الجنوب. يومذاك هدم سجن الخيام وخرج الجنوبيون إلى الحرية… وفي الثلاثة والثلاثين يوما من تموز واَب 2006.. وقعت الواقعة…

يضع وزير الدفاع الاسرائلي المنظار بالمقلوب على عينيه ولا يرى. يغمض أولمرت عينا ويفتح عينا. أما المذيعة الاسرائيلية فتقول: أين هي حيفا؟ بالضبط كانت ثقافة الضحايا الطويلة الامد تذوب شيئا فشيئا في غبش الموت والبطولة وكان ثمة جبل من القهر يذوب تحت أقدام المقاومين في القرى الجنوبية.. ومن أحشاء البيوت المهدمة، وأعماق الخنادق المحفورة من خلال الجبال، ومن عيون البرك وظل الشجر والشعاب الصخرية.. خرجت أناشيد الفتوح المنسية. خرجت معهم الكتب والنساء. خرج المقاومون وكانت الرايات الصفراء والبيضاء التي تغرس فوق رؤوس التلال أو في ساحات القرى المقاومة تستعيد معنى الحمى المفقود وتعيد امتلاك خطوط الخريطة.

أسير على التخوم

أسير من تخوم الناقورة من مرمى المتوسط وأتبع خطا طويلا إلى شبعا… والحاصباني وأحاذي الجليل. جنود زرق هادئون يلعبون ويمرحون ويحرسون وهما. جنود القبعات الزرقاء… مزارعو التبغ يقطفون في مزارعهم الورقات الخضراء بهدوء ويشكونها بالميابر. النساء والرجال والاطفال يعملون معا بهذا النبات الجنوبي الاخضر الذي طالما انطوى على النار. ينتشرون أيضا في كروم الزيتون والتين والعنب. مزارع على مد النظر، لا تسطو عليها الخنازير. أقف على مطل “مارون الراس” وأنظر تحتي إلى السهل الممتد جنوبا. إنه سهل يملكه أهله وحمى لا يجرؤ الاسرائيلي على مسه. الفلاحون يسوقون قطعانهم إلى الحقول في كفركلا وتنمو الفيلات في السهل.. أما بوابة فاطمة فلم تزل حيث هي لم تتزحزح عن موقعها ولو لسنتمتر واحد… في الخيام تسرح الحرية كالغزال.. ولم تزل الدردارة على حالها بحيرة الشاعر المسحورة.

على الخط الازرق، خط الحمى الوهمي، وراءه، جنود إسرائيليون مدججون بالخوف، يسترقون النظر من خلال مناظيرهم القلابة إلى الجهة المقابلة… ويتحركون في دباباتهم كما تتحرك السلاحف. لكن أين؟… في دائرة الموت يتحركون. وفي مرمى الاصابة خيل لي أنهم يفكرون بوادي الحجير ومقبرة الميركافا هناك. ولعلي رأيت فيما يرى الرائي أن أمرا ما سيحدث غدا تنتقل فيه الفتوح إلى الجليل، وتقام الاعراس.

“تموز عاد”

في شهر تموز تنضج الكروم في الجنوب. يتفتح التين كالثغور على الاشجار، الصبار يتخلى قليلا عن أشواكه. أما العنب فيدفق كل مائه في معاصر عينيه.

لكن، خلت أن مناحات تموزية تأتيني من مسافة بعيدة موغلة في القدم. مناحات من اساطير اَرام السورية من 4000 عام خلت تتردد أصداؤها في الجليل وتنعكس على السهل. “دموزي” يشق صدره ناب الخنزير البري ليسيل دمه غزيرا وتنوح عليه النائحات.. حتى إذا جاء الربيع عاد إلى الحياة وسرح في الجبال والحقول.

“وقال الرب لأشعيا اسفح دم أعدائك كما تسفح الخمور، وقال له دسهم بالاقدام كما تداس حبات العناقيد في المعاصر” (العهد القديم) هذا، ومن عشر سنوات خلت، “وفي شهر تموز من عام جرح وألفين بعد المسيح، وخمسين مجزرة في القرى في طريق الامام الذبيح”، وفيما التين والصبار والعنب يفتح أكمامه في القرى الجنوبية، جاءت خنازير مجنحة من جهة البحر ومن فوق جبل الشيخ. ودفنت الناس تحت ركام منازلهم في المنصوري وقانا وجبشيت وعيناتا… قال الراوي: جنود إسرائيليون مدججون بكل أحقاد التلمود جاءوا وأعادوا إحياء الاسطورة.

– هل تحدثني عن التاريخ أم عن الاسطورة؟

– لكن تموز انتصر. قال لي. وقال السّيد:

أيد الله المقاتلين: بجنود لم يروها. وهذا هو النصر الالهي. ثم أشار إلى بارجة في الشاطئ القريب فاشتعلت فيها النيران.

قال جندي اسرائيلي نجا من الموت، إنه شاهد سيفا بتارا بشفرتين يقترب منه.. فوقع مغشيا عليه ولم يعد يعرف ماذا جرى بعد ذلك.

كنت أعرف أن الذين انتصروا هم الاقوياء.

على حافة الايام

فيما حالوتس يضرب كفا بكف، وعمير ينظر بالمنظار المقلوب كان ألوف الجنوبيين الذين نزحوا من قراهم أثناء الحرب يعودون إليها وينتشرون حتى خط الحمى الازرق.

قلت لصاحبي: للمؤرخ أن يصف، لكن للشاعر أن يحلم.

وأضفت: ألا تجد أن التاريخ موصول بأهداب الاسطورة؟

قال لي: ماذا يفعل إذن أولئك الذين ينتظرون على حافة الايام؟

قلت: ينتظرون… الطريق طويل. وأضفت: هل ترى المدينة؟

كنت أقصد شيئا وكان يقصد شيئا اّخر؟

لعله كان يقصد القدس أما أنا فكان طريقي إلى حلب.

نشر هذا المقال في جر يدة السفير بتاريخ 13/8/2016

اللوحة بريشة الفنان عادل قديح

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *