الخميس 28 مارس, 2024

الوعي الشأني بين الديني والسياسي

الوعي الشأني بين الديني والسياسي

علي .أ. دهيني*

الوعي في عنوانه العريض هو الانتباه من السبات إلى اليقظة. من الخمول إلى النهوض. من العبثية إلى المنهجية. الخروج من واقع الإملاء إلى النقد والتحليل.

وبناءً على تجريدية الوعي كعنوان، فهو مبتدء لعنوان آخر ملازماً له مثل: الوعي الاجتماعي. الوعي السياسي. الوعي الديني.. إلى ما هنالك من متلازمات لهذا العنوان. دون أن نهمل الوعي الذاتي الشأني، أو الذاتية لارتباطها بالفلسفة.

ففي جلسة ممالحة صباحية على مائدة إفطار قروية، جمعت ثلّة من الأقارب والأصدقاء انصرفت فيها الألسن إلى الحديث بعد أن فرغت الأيدي مما تناولت والأفواه مما استقبلت، وبدأ الكلام يتدرج بأطراف الحديث، متنقلاً بين موضوع وآخر. وبعد إصغاء وتنقل بين الوجوه، قلت إن ما أسمعه إنما يُنبي بدرجة الوعي الذي كسبته هذه العقول الشابة، لماماً، مما يجري حولها من جديد الأحداث الطارئة، مع ما تراكم في ذاكرتها من موروث تأبى التخلي عنه لتجذره في انتمائها البيئي والعقيدي. وهو يندرج في الوعي الذاتي الشأني غالباً.

وكون الحديث غالباً كان حول مفاهيم دينية لها هويتها الخاصة، وإسقاط هذه الهوية على الواقع السياسي، استنكر بعضهم توصيفي بأن ما يندرج من حديث هو “وعي” كسبته هذه العقول الشابة. وقال أين الوعي وكل ما يدور من حديث هو استغراق في الانتماء إلى الموروث، الذي لم يتبدل فيه سوى الألفاظ والأشخاص والوجوه ليس إلاّ، وما زال التعصّب والعصبية لبيئة الانتماء هو الغالب بعيداً عن الانفتاح على متغيرات وحاجات المجتمع.

المتحدث كان حديثه من منطلق ديني، ودفوعاته تنطلق من أن الموقف أو الجهة التي يتبنى رؤيتها، تنطلق في سياستها من خلال الدين، وليس العكس، وهذا يعوّل عليه التغيير إلى الأفضل وإحقاق الحقوق، لأن الميزان الديني، عنده، هو القوس الذي يؤمن سلامة المجتمع. وكان بيانه يشير في هذا إلى جهة دينية معينة.

المستنكر لوسم هذا الموقف بالوعي، ينطلق من رؤية سياسية رافضة لرؤية سياسية أخرى، ولو كانت تنطلق من مفاهيم دينية، واعتبر أن موضوع الدين مسألة ذاتية للفرد في المجتمع وليست مرجعية لإدارة البلاد، وذلك لأن المجتمع يتشكل من إثنيات ذات ثقافات وأيديولوجيات وعقائد متنوعة، وعلى هذا لا يجوز أن ينبري مرجع عقائدي لقيادة وسوس المجتمع من خلال رؤيته، حتى ولو أنه تمكن أن يقود ثورة وينجح، ولا يمكن إسقاط واقع على واقع آخر.

فهل هناك “وعي” في مجتمعنا؟

في الواقع إن موضوع “الوعي” عموماً، ليس محدداً في أمر واحد، إنما هو إدراك لجملة من المكتسبات الثقافية والمعرفية دون تحديد هوية هذه الثقافة أو تلك المعرفة، فالوعي يتشكل من جملة الأشياء في الواقع المحيط، وتتوسع مع تقدم المكتسبات، ناهيك عن أن من شروطه، ومكتسباته، قبول الآخر، وهذا القبول عنوانه الأول الحوار بين وجهتي نظر مختلفتين في الرؤيا، وفي المنطلق حتى.

وليس شرطاً أن يرتبط هذا “الوعي” بتوافق وجهات النظر وتوحيد الرؤى في موضوع، بينيّ، عند الحوار بين المتحادثين، بمعنى إذا كنت لا أتفق معك في وجهة نظرك لأمر من الأمور، فهذا لا يعني أنني خال من “الوعي”  بدليل أنني أملك وجهة نظر يمكنني الدفاع عنها في مقابل وجهة نظرك، وهذا يمنحني وعياً كما تعتبر أنك تملك وعياً.

ففي واقعنا وبيئتنا الكثير من الأطروحات ذات العناوين الجاذبة للولوج في دهانقها، ناهيك عن تداخل هذه الأطروحات ببعضها، مما جعل أي حوار يدور تحت عنوان التفرّد في صوابية وجهة النظر الأحادية الرؤية عقيماً، فالسياسي لا يقبل من الديني أطروحته لأنه يعتبرها حاجزاً يعيق انفلاش رؤيته ويشوّه مساراته.

والديني ليس أقل اتهاماً للسياسي في هذا، ويعتبر أطروحته “شعوبية” التوجه، وممارساته براغماتية ميكيافيلية لا مبدأية فيها.

مشكلة “الوعي الديني” أنه متعدد المشارب كما السياسي، وليس موحداً في أطروحته أو جامعاً في بيانه، والسبب الأول أن التمييز بين المدارس الدينية واختلاف مناهجها واجتهاداتها في التعامل مع الأصول، متعددة، ولذا تجد ما هو مقبول هنا مرفوض هناك، ويكون الحوار أو التقديم مقتصراً على وجهة نظر آحادية المرجعية. وهذا مقتل لأي حوار.

بين هذين الوعين، هل يجوز أن ننزع صفة الوعي عن أحدهما؟

ما نرواه أن الوعي الذاتي ليس بالضرورة مرتبطاً بتأييد وجهة نظر أو اتجاه معين، بل هو خروج من دائرة القبول المطلق دون إدراك، أكان هذا القبول في الديني أو في السياسي؛ فالوعي الذاتي شرطه التمييز العقلاني بين الصالح والسيء في حدود ملكات العقل عنده وكيفية استقبالها للمكتسب الوارد عليها وإليها. وشرط الوعي الأول هو الاستيقاظ من سبات الوارد إلى إعمال العقل فيه تحليلا وتقييماً.

الخلاصة، في موضوع الوعي ليس شرطاً أن أكون مؤيداً لوجهة نظرك حتى أكون على درجة من الوعي. و”الوعي” لا يرتبط بهذا الجانب أو ذاك من جوانب العلاقات، وكما يمكن أن يكون هذا الوعي ذاتياً شأنياً، مثل الوعي الاجتماعي والوعي الأدبي والثقافي المنفتح على كل الثقافات القريبة والبعيدة عموماً، والذي يجنّب الإنسان المزالق في الأمور المسيئة، يمكن كذلك أن يكون وعياً اجتماعياً شمولياً مع التمييز بين لزوميات هذين الوعيين. لأن الوعي ليس بالسياسة وحدها أو في الدين وحده، فهو مطلق؛ الوعي الذي ينقل الإنسان من القبول الفوري المسلّم به إلى النقد والتحليل. وإذا كان السياسي يوسم بالبراغماتي أو الشعوبي، فالديني أيضا يوسم بالأحادية “الديكتاتورية” الفقهية (كما نرى في بعض “الجُزر الدينية”) في هذا الزمن. وأقول “جّزر” لكثرة المدارس الفقهية والدينية عند كل المذاهب.

إن الحكم من طرف على طرف آخر بأنه لا يملك وعياً لأنه لا يتوافق مع رؤيتي وتقييمي لأمر بعينه، أو لحالة أو وجهة نظر بعينها، هذا ظلم. ومع حسن النية يكون سعياً لتوهين وعي وثقافة الآخر ووسمه بالجهل. وما قصدته في هذه المقالة هو الوعي الذاتي الشأني، أما الوعي المجتمعي ، في جغرافياتها في بيئتنا العربية عموماً، فالحديث يختلف.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *