الخميس 28 مارس, 2024

الناس عبيد أفكارهم…

الناس عبيد أفكارهم…

علي نسر

ali-1

عوّدتنا الحياة، أنّ ما ينتجه الواقع، أو يخلقه الإنسان نتيجة ظروف تستدعي وجوده، نسقطه مع الأيام وتعاقب الأزمان، على عقولنا والقلوب، اسقاطًا ونتقبّله من دون تحليل وتفكير، فيتحكّم بنا ونصبح مقيّدين به متناسين ظروف ولادته، ويستحيل قانونًا تصوّب أصابع الشبهة على من يحاول نقده والمسّ بقدسيته التي نحيطه بها خوفًا أو عدم معرفة، إذ إنّه مشيئة يجب الانصياع لها والاقرار بقدرها. وهذا ليس جديدًا، فالحياة قائمة على تحكّم قوانين من صنع الانسان بصانعها نفسه، وكأنّ هذا ميلٌ إلى تحويل أوضاع من خلقنا إلى أوضاع طبيعية. إنّها عادة عريقة في التاريخ. إذ نخلق وضعًا معيّنًا بسبب أوضاع وتحدّيات معيّنة، ثم نصفه بأنّه وضعٌ طبيعيّ، فننظر إليه وكأنه جزء من النظام الكوني العام.

وأكثر ما ينعكس ذلك في حركة الناس الفكرية والثقافية، إذ غالبًا ما تتضافر ظروف وعوامل حياتية في خلق نصّ أدبي، أو ولادة فكر وفلسفة ما، ويتحّول هذا الخلق، من نتيجة لأسباب اجتماعية، إلى أسباب تسهم في انتاج ثقافات وفلسفات انطلاقًا منها… وهناك دراسات تثبت أنّ القرآن نفسه، استدعت نزولَه عواملُ وحاجاتٌ اجتماعية ملحّة، والدليل أنه نزل منجمًا على عشرين عامًا، وشهد تحوّلا في آياته وسوره من حيث الأحكام نظرًا إلى تبدّل حياة المنزل عليهم وتطوّر عقولهم، فنسخت أياتٌ آياتٍ، وتحوّل من كونه نتيجة ظروف ثقافية واجتماعية استدعته، إلى ضابط ايقاع للفكر والثقافة فيما بعد. وفي هذا اشارة واضحة إلى مدى مراعاة الله لطبيعة الحركة الحياتية، وإشارة إلى أنّ أيّ حكم مضت عليه قرون يجب أن تستوعبه الحياة الجديدة بما يتناسب معها، إذ يجب أن تتوافر ظروف وعوامل مشابهة لظروف ولادته.

لكنّ الخطر الأكبر، يكمن في وجود نصوص أدبية، أو أفكار فلسفية، أو ايديولوجيات أفرزتها صراعات كان لها أسبابها، فظلّت مسيطرة تحرّكنا بجهازها الخاص بدل خمود جمرتها مع انتفاء عوامل وجودها، فتحوّل وجودها إلى منتِج فكريّ وثقافيّ وفلسفيّ. فكثيرًا، ما نتبنّى شعاراتٍ وأقوالا وأبياتًا شعرية أو نصوصًا أدبيّة، ونسقطها على واقع يختلف عن واقع ولادتها، ونقنع أنفسنا أنها تصلح لكلّ عصر ومكان. وكثيرة هي الأفكار، التي ترجمت أبياتًا وقصائد، لا تتجاوز حدود الخواطر الوجدانية، أو أن تكون فكرة شعّت في ذهن الشاعر نتيجة تجربة خاصة، تصلح لزمن ومكان محددين، وقد تؤدّي الظروف لاحقًا إلى قول ما يتناقض مع هذه الأفكار من صاحبها الشاعر أو المفكّر نفسه…فكم هي وفيرة، تلك الخواطر الشعرية، التي نستنكرها ونرفض دلالاتها لما تحمله من أفكار لا تتناسب مع ما نفكّر فيه ونسعى إلى تحقيقه، لكن سرعان ما تستحيل تلك الشعارات المرفوضة، ضربًا من ضروب الحكمة التي تنسحب على كلّ الأزمان رغم تقلّب طبيعة الحياة.. فنتبنّى ما كان مستنكرًا حين نسقط في الفعل الذي دفع هذا الشاعر أو ذاك إلى قوله ولو بانفعال متسرّع، وذلك كأوالية دفاعية نعتمدها من أجل تسويغ أفعالنا واراحة ضمائرنا… فهل ما قاله المتنبّي على صعيد المثال لا الحصر، حين هجا العبيد بطريقة عنصرية منفّرة، نتيجة موقف خاص من كافور الاخشيدي، يمكن اعتماده شعارًا ذا قيمة؟؟ نستنكره حتى نقع في ما يجعلنا نعتمده للدفاع عن فعل مرفوض…فحين يقع من هو أقلّ منّا من حيث المركز والطبقة في خطأ ما، خصوصًا أولئك العاملين والعاملات الأسيويين مثلا، يصبح كلام المتنبي حكمة تسوّغ ما نقوم به من عقاب للآخر، ويصبح هؤلاء عبيدًا وأنجاسًا مناكيدَ، وينبغي احضار العصا مع احضارهم… وحين نسقط في حفرة من التشاؤم، تصبح الحياة كلّها تعبًا ونتعجب ممن يقبل عليها، كما تستحيل الدنيا جيفة نتهافت عليها كما يقول المعرّي، وتصبح الآخرة ملاذًا يهدّئ من تخبّطنا فقط، متناسين أنّ أبا العلاء أطلق تلك الخواطر نتيجة صعوبات حياتية جعلته متشائمًا ليس من الضروري أن تنسحب على مختلف العصور.

وهكذا، يمكن القول: إنّ الناس عبيد أفكارهم، ينتجون في ظروف معيّنة افكارًا تستدعي وجودها حياةٌ ما، فتستحيل هذه الأفكار قوانين ونواميس طبيعية شبه مقدّسة، متكيّفين مع فكرة أنّ السلف الأقدم هو الأكثر معرفة من الخلف الحالي أو القادم.

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-10-17 على الصفحة رقم 12 – ثقافة

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *