الجمعة 19 أبريل, 2024

المرأة الخالدة

ق.ق.ج.

المرأة الخالدة

د. رائدة علي أحمد

سئمتُ من ساحات الثورة، فتركتُها .. وهِمْتُ على وجهي جنوبًا.. فتوقفت السيارة بي في الناقورة. وعلى صخرة مسنّنة أطرافها قبالة البحر جلست، لأفرغ حمولة أفكاري الملتبسة، وأرمي الهمّ الوطني الذي استعمر فؤادي، منذ كنت صغيرة ، في ليلة البدر من ليالي التشرينين، قرّرت أن أحرّر القلب من احتلال وطني، خنق حنجرتي، وقيّد قلمي، وأسر روحي. وبينما كانت عيناي ترسل دمعًا أحمر عبر الأثير، والشمس بثوبها الذهبي الدامي تودّع الشفق الذي بدأ يغزوه وشاح رمادي أغبر، سمعتُ همهمة ناعمة بصوت خافت، غلب العياء عليها، نظرتُ، فإذا بامرأة سبعينية تدفع أمواج الموت عنها بيدين جبارتين ممسكتين بخشبة عتيقة كأنّها من خيمة عبد بن مناف. عوى قلبي خوفًا، تسربل لساني بدهشة مفزعة، تبخّرت الأفكار السوداء، تلبّسني الهلع.. ففرّتِ الدموع هاربة مني، وازدردتُ لعاب الدهشة، فانتفضت قدماي أمامي، ورمت بجسدي على الشاطئ، وسرعان ما انغرستا بالرمال، ثمّ تطاول جسدي نحو المياه، تتقدّمه يداي، تحاول مساعدة المرأة المجهولة الإسم، صرختُ بلهفة محبّبة:

هاتي يديك..! لعلّني وإياك نقبض على الأمواج الجامحة .. فننجو..!

وبصوت مذبوح صرخت:

لا.. لا تقتربي، ففي قلبي نار وبارود، وفي جسدي أشلاء أطفال ونساء وشيوخ، وفي عينيّ شلالات من دماء أبنائي المقتولين ..

صرخت صرخة ظننتُ أن السماء أرعدت:

من أنت أيتها المرأة، المجهولة الاسم، المنكوبة الحزينة .. وما الذي جعلك تركبين الأمواج الغادرة. وتسبحين ضدّ التيار العاتي..

وصلني جوابها على صوت موجة، تكسّرت على قدميّ، وكادت تقتلعها من الرمال، فأبرق صوتها الرعديّ قائلاً:

ليس عيبُك أنك لا تعرفينني يا ابنتي.. فأبناء جلدك كلّهم أنكروني.. أخوتي زوجوني من غريب غادر بخطابات رنانة.. وأبناء أعمامي باعوني في المحافل الغربية بدولارات مزيّفة.. أنكرني التين والبطيخ والزيتون والبرتقال، تركتني الأرض الذي حبلتُ بها بين أنياب التشرد والجوع والقهر والعهر.. فأنجبت قطاعًا من مدن المأساة وقرى المعاناة.. يسكنها شعب من قبور وسجون ودمار ودموع وأشلاء ودماء.

ساد صمت موجع لبرهة، ثم شقّته كلماتي الغبية الباهتة:

هاتي يديك يا أمّاه، وتعالي ننزل ساحة الثورة .. فلنغسل أدرانها ووباءها من نبع قدميك الطاهر أو نستشهد معًا..

وببسمة صفراء رسمَتْها على شفتيها المتحدّيتين.. قالت ساخرة:

لا مكان لي بينكم.. فأنتم تقاتلون بعضكم بعضًا..تبحثون عن قضية للثأر، ولا عار بينكم ..أما أنا فحربي مع قاتل أبنائي طويل .. طويل..

وقبل أن تختفي بين الأمواج .. ضحكت لي.. فرأيتُ في عينيها النصرَ المبينَ، وبريقَ الخلود.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *