الجمعة 29 مارس, 2024

العنف الخطابي وارتباك الهوية

العنف الخطابي وارتباك الهوية في رواية رقصة الجديلة والنهر

غزلان هاشمي 

جامعة محمد الشريف مساعدية ـ الجزائر

gzlan-1a_wafaرواية رقصة الجديلة والنهر للأديبة العراقية وفاء عبد الرزاق بوح مسيج بوجع الانتظار، وانتقائية تترفع عن التسجيلية التوثيقية لتؤسس الوعي بالمغايرة، إذ ترصد مواجع العراق وأهلها ثم تجاوزها نحو وطن النص وهوية التعدد والاختلاف، فالروايةgzlan2-1 تحدٍ موضعيٍّ للحظة الغياب، ووعدٌ بامتداد لا نهائي لحضارة الكلمة التي تفوز في النهاية على العدم.

جاهزية الأحكام وصراع الخطابات:

تصور الرواية صراع الخطابات العرقية في العراق، حيث كل خطاب يبني وجوده المتعالي من خلال البحث عن صيغ دينية تسوغ الانتهاك والعنف وإقصاء كل مغايرة، فداعش تحاول أن تصنع لنفسها مركزية وأن تبسط نفوذها من خلال تخطيء الآخر وأبلسته وتجهيله أو من خلال تقديم صيغة تخييلية عنه تسهيلا لاختراقه وانتهاك زمنه. يصبح الاختلاف إذن شراً قابعاً في الوطن/النص، لذا لا بُدّ من إعادة ترتيب أبجدياته وفق معيارية ذاتية، لتكون الذات في الأخير سلطة مرجعية تنبثق كل الأحكام منها : “اضطرت أغلب العوائل في الموصل إلى ترك منازلها هربا من بطش(داعش)،،منازل بنوها بعرق جبينهم وكدهم وآمالهم عبر سنوات.

لم يغب عن الجميع خبر قتل المسيحيين والأيزديين والمسلمين، والشبك، وحرق الكنائس، لم ترتعش لهم يد وهم ينبشون بها قبور الأنبياء..”.ص41.

ويتجدد السؤال إعلاناً عن حيرة الذات: “لماذا الجلادون ينحتون أحرف أسماءنا، ويشاركهم جلادون مثلهم من أرضنا؟ أبناؤنا ضدنا، لماذا أبناؤنا ضدنا؟.

لماذا نحن فريسة الاختلافات العرقية والطائفية، حتى صارت كلها مألوفة”.ص22.

يصبح الاختلاف تهديداً للهوية الثابتة حينما يضعف الوعي بالمغايرة، حيث تكثر الأحكام الجاهزة من أجل الحفاظ على مركزية الذات وتصفية الآخر خطابياً ووجوديا، فالمسافة البينية بدل أن تعزز الوجود الذاتي من خلال تحويله إلى إمكان حقيقي متحقق في شكل إلزام تجاوري في الفضاء المكاني والزماني معاً، تحوّله إلى صيغة متخيّلة مُسيَّجة بإيديولوجيا الاصطفاء، وقد يكون الدافع النرجسية والشعور بالفوقية وادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وقد يكون الدافع الشعور بالخطر، نظراً لأن الآخر كامن في منطقة غموض أو التباس، وفي الحالتين يمارس العنف خطابياً ووجودياً من أجل الحفاظ على صفاء الهوية والدفاع عنها من كل الانتهاكات التي تؤدي إلى إدخال اعتبارات غيرية، حتى وإن كانت من صميم المعطى الإنساني ووعيه التركيبي المفترض، فالاختراق، إذن، في هذه الرواية واقع فرضته الاختلافات العرقية والطائفية وعدم الاعتراف بالغيرية وحقوقها، وكذا الادعاء بامتلاك الحقيقة، وبالخيرية المطلقة التي تفترض أبلسة الآخر، “لجأ بعض الأيزيديين إلى جبل شنكال مع العديد من رفاقهم خوفاً من بطش داعش. إذ استولى على المنطقة، وأسر عشرين عائلة ودفنهم أحياء، لذلك كانوا خائفين من مطاردتهم إليهم، ولو أنهم كانوا يضحكون ويُهنِّؤون بعضهم في لحظة الدفن وكأنه عيدهم الكبير.

أبلَغوا العوائل الإيزيدية التي لم تستطع الفرار، أن أمامهم مهلة أربع وعشرون ساعة لإشهار إسلامهم، ومن لم يقم بذلك مصيره الذبح”.ص111.

تقوم داعش/السلطة الدينية بوضع تفسيرات معيارية تهدف إلى التصنيف المرتكز على الانتقائية، وذلك من خلال استخدام مسوغات دينية هي في حقيقتها تفسيرات ذاتية هادفة إلى الحفاظ على مركزية الذات، حيث يصبح الإفراغ مربكاً للاعتبارات الغيرية من أجل الحصول على وجودية أحادية ومن أجل الحفاظ على نقاء الهوية، “كما أن داعش أمهل العوائل الكردية، أيضاً، المدة نفسها لترك المدينة، وخاطبوهم بالخونة، وطلبوا منهم ترك ممتلكاتهم لأنها أصبحت ملكاً لهم ولدولتهم الداعشية”.ص112.

“كلما انكسرت شاهدة قبر أو دُفن مقتول، وجدوا عند قبره سنابل جميلة زاهية بلونها وكأنها اقتطفت للتو”.ص44.

الهروب من الرقابة نحو العوالم المحايثة:

تقول في “كلمة”

“أنا، أيضاً، لديّ تساؤلات..

ماذا سيحدث بعد هذا الرأس المقطوع؟

وأين تلك الكلمة التي تهز السماء؟

ما زال المساء يترنح، والنهايات مدخنة.

موهنة زخات المطر، واللحظة بالكاد تستوعب التكهنات”.ص5.

هل التساؤل عبارة عن وعي بذلك الإمكان المتحقق في المسافات المعتمة التي خلقتها انبثاقات الدهشة وارتعاشات الحقيقة ؟ أم أنه قبوع وانكسار وزلة لغة تنتظر اعترافاتها لتهدي كل بوح مساحات وجع؟.

تبحث الأديبة العراقية وفاء عبد الرزاق في الإمكانات الواقعية عن حقيقة نصية مغايرة، لذلك يظل الجواب عن الإمكان اللغوي متحققاً في المتعاليات/ السماء، حيث الانتقائية المرتكزة على مسافات الحيرة، وحيث الهوية الإبداعية تنتظر اكتمالها في الوعي القرائي/الاجتماعي .

إن هذا البوح، المقدم، يلفه الالتباس، فالمساءات عبورٌ زمنيٌّ نحو واقع يكاد يقترب من الغموض الليلي المرتكز على وجع الانتظار وانبثاقات الدهشة والوحشة والوحدة، والنهايات ضبابية، فبقدر ما تؤكد الاكتمال، فإنها تشي باحتمالية الاستمرار /الهوية النصية المتعددة، وكأنها تحفز المتلقي على البحث عن لحظته النصية/ الاجتماعية الأصيلة، كما أن النهايات مأزق واحتراق وكأن بالذات/النص تعاني وجعاً نظراً للكبت الذي فرضته الرقابة السلطوية، وحتى البوح، في حال خروجه، يكون ضبابياً ملتبساً يلفه الغموض، هارباً من سلطة التحديد، حيث تصبح الحقيقة واقعياً ونصياً، قابعة في العوالم المحايثة/الدخان. إن الإمدادات القرائية/زخات المطر، تعاني الوهن، لذلك تظل الحقيقة متعالية، حيث اللحظة الإبداعية لا تتشكل إلا من تكهنات واحتمالات هاربة من سلطة الرقيب الإبداعي والاجتماعي والسياسي.

نحو غنائية جديدة ومقاومة الغياب:

 “من أجل أن يولد شيءٌ مّا في دواخلنا،

سنقف كل يوم دقيقة صمت”

“لكي يجعل من الشمس أرديةً تردم ثقوب الحياة..

عليه أن يفاتح نفسه أولاً قبل الآخرين، وأن يُبعد روح الشر من النفوس، وإلا أضحى هو الآخر مثلهم.

أن ينحت إرادة أخرى… ويؤسس لغنائية جديدة، ويتوهج، كي لا تبقى الحياة بكماء.. فإلى أين يقودُه الواقع، وتقودُه عجلات الزمن، لا أحد يعرف”.ص9.

تتأسس الولادة الواقعية/النصية على الوجع، إذ تمثل دقيقة صمتٍ مسافةً بوحيةً محايثةً للبوحِ المركزيّ /السلطويّ، حيث الغياب تعبير عن واقعيةٍ زمنيةٍ تبحث لها عن إمكانٍ نصيٍّ متحقق في زمن المستقبل يقاوم العدم ويحوّل المتعاليات/الشمس إلى لحظة آنية ترمم انكسارات الواقع الاجتماعي والسياسي. إن هذه الولادة مشروطة بالتحرر من سلطة الرقابة الذاتية والغيرية، وبالتحرر من سلطة التطابق وفخ المثلية، وذلك بخلق عوالم بوحية مغايرة “غنائية جديدة” تقاوم الموت/الغياب /العدم. يصبح العزف/العوالم البوحية المحايثة، إذن حالة وجودية تقضي على الشغور الحاصل في الهوية الذاتية/الإبداعية وتكمله في زمن القارىء المستقبلي، لتتحول المسافات المعتمة “اللامرئي” إلى موجودات نصية متعالية ومتعددة، هاربة من سلطة التحديد والمعيارية التي تثقل كاهل النص/الذات/الوطن. “ليس الغريب أن تكون ميتا، بل الغريب ألا تعزف، وتحول الحياة إلى بكائية صامتة .. سأعزف، وأعزف ليصل صوتي السماء، ويتحول اللامرئي، إلى عوالم ضوء”.ص10.

تؤكد الكاتبة على أن امتدادات متعالية عميقة، تصحو في الذات /النص قبل انبثاق الفجر، أي في ليل المعنى. فرغم الفراغ الظاهر في فضاءات اللغة، إلا أنه لا وجود لفجوات باقية، لأن خراب النص/الوطن يعوِّض بالانتشاء الناتج عن العلاقة الحميمية بين النص وقارئه. إن عازف الناي “حامد” يؤسس لعالمه المنبثق من نتوءات الهامش، حيث المحايثة تعبر عن الحقيقة الأصلية القابعة في العتمة هروباً من سلطة الرقيب الاجتماعي والسياسي، فهو يقدم طقوساً نغمية تستجمع عناصر الدهشة والرهبة والحزن والفرح معاً، لتنبه إلى الوجع المكمم وتنبىء عن عوالم غير مركزية قد تسهم في تغيير واقع العراق/النص إلى الأفضل من خلال الاحتفاء بهوية تركيبية متعددة (نغمية وإنسانية)، ولعل الطفل الأخرس تعبير عن هذا الوجود الواقعي/الإبداعي الذي سيمتد في زمن المستقبل. وتقدم الكاتبة ملمحاً عاماً عن هذا الوجود المستقبلي، فالمجهولية واليُتم جزء من عراقٍ قادمٍ ووجعٍ مستمر، والفقر فقدان لارتكازات مرجعية، حيث تصبح هويته أو هوية العراق، ناتج عن التحام الإبداع بالوجع، ويصبح الخَرَس ذهول وصدمة مثقف بسبب واقع آني مؤلم، إلا أنها ـ أي الصدمة ـ تؤسس زمن الدهشة، ومن ثمّة ينتج النص/الإبداع، حيث يعوض البوح باعتبارات خطابية/نغمية تهرب من سلطة الرقابة السياسية والاجتماعية، لكنها تقدم حقيقتها إلى قارىء نوعي، وتسلط الضوء على تلك العوالم المهمَّشة والقابعة في مساحات الوجع/الليل. تقول الكاتبة: “قبل انبثاق الفجر يصحو في روحه فضاء عميق، مليء بالنشوة، يصمت مصغياً وكأنه في أجواء إلهية وطقوس صلاة… يدنو منه الصبي الغريب الأطوار، ذو السابعة، بملابسه الرثة الممزقة من الأكمام، وعند الصدر بثقوبها الثلاثة… ويلتحمان معاً: أخرس وناي.

أخرسٌ لا يعنيه من الكلمات إلا إشاراتها، والاقتراب من آنيَّة الموقف، ليصفه بأصابعه النحيلة”.ص11.

نحو تجديد تأثيث ذاكرة المكان: ريحانة الوطن والإمدادات المستقبلية :

تمثل ريحانة/صاحبة السنابل، إمكاناً متحققاً في زمن المستقبل يتحدى العدم وفراغ الهوية النصية/الواقعية لكنه يظل متعالياً، إذ بنورانيتها تقضي على العتمة والالتباس، وبالسنابل الممنوحة تقدم استبدالا زمنياً للواقع المعاش، لكنه يظل مسيجاً بالوجع، فلحظة العدم/الموت تصبح تعبيراً عن قتلٍ للوجود الموضعي للذات/النص، لكن السنابل، ولأنها تمثل إمداداً خارجياً، فهي تؤرخ للبداية النصية/العراقية بعد جفاف الاعتبارات الذاتية، فهي بداية مغايرة تتحقق بعد تغيير ملامح العراق/النص إذ تحمل نبوءة التحقق وأمل التمكين للحقيقة النصية، لكن في موضعية استبدالية، هذا، وتؤكد السنابل مكيدة الإخوة ورغبتهم في تصفية الوجود الذاتي، نظراً لأنه يمثل غيرية اصطفائية غير مرغوب فيها، وكأن بالخيانة، هنا، داخلية، حيث يتم انتهاك الزمن الذاتي/الوطني حفاظاً على نصية ترتكز على المصالح الشخصية، لذلك تُمنح السنابل للغيابات المتكررة علها تُقصي تلك الخيانة من أجل إيجاد حضور موضعي مغاير في زمن المستقبل، فالطفل هنا إمداد حقيقي يشي بالاستمرارية، كما يؤكد خرسه محاولة لإقصاء الوجع القبلي الذي سببته الخيانات المتكررة للعراق/النص من قبل الإخوة الأشقاء، لذلك يلتحم بلحظة الحياة/المرأة/الرغبة من أجل تقديم حقيقة خطابية أخرى، علّه يعثر على زمنية يُغاث فيها النص/الوطن، بمتعاليات تعيده إلى مركز الوجود والحضور بعد غياب طويل. “قبل البزوغ ظهرت شابة بملابسَ بيضٍ كأنوار شمس مشرقة، وحين رأى الطفل ملامحها الوديعة تبعها صامتاً، كعادة الخُرس مطأطأ الرأس، مبتسم.

اقترب منها ليحمل عنها السنابل، بينما هي مسحت شعره المُغبَّر وأعطته سنابل صغيرة.

اختارا موضعاً على بعد خطوات عن القرية وجلسا يتهامسان، بعد ذلك انطلقا معاً متجهان إلى كل أبواب القرية ووضعا السنابل”.ص12.

إن هذا الامتداد الزمني/الطفل منشغل عن هامش الحياة بما يضمن له التحقق والتمكين في زمن المحايثة/الإبداع، إذ الواقع بالنسبة إليه وجع وقتل للبراءة وإن كان في صيغة مطابقة للواقع الحكائي، فحيث اللغة المصاغة، وحيث اللعب بالدوال، وحيث التشكيل المستمر لعوالم غيرية بعيدة عن عالم الواقع، تتحقق الرهبة من أن تكون الصياغة الغيرية مقصية لحدود الذات/النص الأصلي ولاهتماماتها الحقيقية، “يصاب الطفل بالوجوم والتردد كلما نوى الصبية اللعب معه، ينظر إليهم وفي روحه اشتهاء عميق إلى اللعب… شيء أشد منه وأقوى، يمنعه دون ذلك.ص13.

بقدر ما يمثل الطفل ذلك الامتداد الزمني المدجج بالأسئلة بقدر ما يعكس أزمة الإنسان العراقي في زمن الحاضر بعد تعرضه للانتهاك من قبل خطابات مروِّجة للعنف، حيث يحوّل وجعه إلى إمكان غيري من خلال تغيير هوية المكان وملامحه عبر صياغة مفرغة من كل ذاكرة، وهنا يظل الجواب قابعاً في المسافات المُعْتِمة، لا يستفزه سوى عازف الناي أو التشكيل الإبداعي المحايث لعالم الواقع. “يحفر كل ليلة في مكان، يبدل الأمكنة حسب هواه، ويتطلع إلى السماء، وإلى وجه عازف الناي، يوجه إليهما أسئلة مبهمة، ويحلم بالجواب، كلما سأله عازف الناي عن سبب تولعه بالحفر، لا يجد غير هزة رأس من الطفل، وزم شفتين صغيرتين.. وصمت”.ص13.

يمثل الطفل الأخرس الامتداد الزمكاني المقاوم للعدم والفراغ، أو ذلك الإنبات الهوياتي على أرضية البراءة، لكن ذلك الامتداد مسيجاً بالصمت الذي تعوّضه ألحان الناي وصاحبه، فاللحظة الخرساء إيذان بميلاد زمن يقيد فيه البوح، إلا أن اللحظة الإبداعية /الناي المنبثقة من القبليات المؤثثة لذاكرة المكان، تطلق سراحه وتساعده على خلق راهنية مغايرة . “الطفل الأخرس لا يشبه أحداً في القرية، قادم من مكان مجهول… حاول الأهالي مراراً تعويضه بثوب جميل جديد، وإجباره على نزع الممزق… لكنه يرفض كلياً، ربما يرى الثوب حارسه الوحيد من الضياع.ص19.

“أكثر ما يغري عازف الناي حضور الصبي، لتنغم روحه معطرة بأنفاسه وببراءة أولى قادرة على أن تصبح طاغية عليه… نايه بعض منه، ومن حضور طاغ لطفل”.ص20.

ترميم الواقع الحكائي:

يمثل عازف الناي “حامد” سلطة الحضور الذاكراتي حيث يغيب الزمن الواقعي الذي تنتفي فيه الموضعية الآخرية/شيرين، ليعوض بالزمن المحايث الذي يشتغل فيه الاسترجاع من أجل البحث عن وطن مغاير. وأما الناي فيمثل مسافة بوحية من الوجع الذي تراكمه ذاكرة المكان، حيث تؤثث للحضور المقاوم للغياب ليشغل الفراغ الذاكراتي بعيداً عن سلطة الرقابة الاجتماعية والدينية.

يستحضر عازف الناي “حامد” عبق البدايات من خلال لحظة البراءة، وكأنه يبحث عن واقع مغاير يرتكز على اعتبارات ذاتية متحررة من سلطة النسق الديني والسياسي المهيمن، فالحضور الإبداعي/الناي َمْثُل في صبغة مركزية متحدياً موضعيته الهامشية السابقة ليعيد ترميم الواقع الحكائي/الحكاية الواقعية، إن الحمد الذي يحيل إلى اكتمال الحلم وتحقق الرغبة ومنتهى الانتشاء، يتحقق من خلال تلاحم انتقائي بين سلطة النغم(الإبداع) وبراءة التموقع المستقبلي/الطفل التي تترجم وجعها إلى بوح انفرادي أو نصية ثانية تتحدى به العدم/الموت /الخرس، ليعبر الملاك الهابط من الغيمة البيضاء عن الإمدادات المتعالية: النصية والواقعية معا، حيث يعوض الغياب/الموت بحضور مستقبلي ذاتي متجدد/السنابل (عراق آخر) لا يعول على الارتكازات الخارج نصية.  “يتنقل معها من عتبة إلى عتبة، وقلبه يخفق لذوبان الشعر الطويل الأشقر في نسائم الهواء العذب ليلا، يضعان السنابل على العتبات، حتى تضيع هي في الضباب، تبحر مثل سفينة ذات أشرعة بيض، ويرجع إلى مكانه قرب عازف الناي وقد أوهنته ريح الغياب”.ص21.

تمثل رقصة الجديلة خروجاً وثورة على السلطة المعيارية السائدة، فالجديلة /المرأة/ريحانة تحاول استرجاع حضورها المركزي الذي انتهكته السلطة الأبوية/داعش في الزمن المحايث/زمن الرقص، حيث الغياب يعوَّض بفرحة المثول في عوالم البوح الإبداعي المنجز على حواف الإمداد/النهر. ريحانة وهي تحولت روحاً تكلم روح شيرين: “كنت أوزع سنابلي في الحدائق، وألفها على الرقاب التي علقت رؤوسها على الأسوار المدببة للحدائق العامة في الموصل، لأستشف من العيون أسئلتها، وانتظارها لما سيأتي، وعلى يد من وكيف سيكون الآتي…… فلنرقص الآن رقصة الجديلة والنهر. جديلتي الشقراء أكثر سمواً من همجية داعش وأقرب إلى الله، فهي قيثارة مقدسة.

أمطرت السماء سنابل مضيئة، رقصت الضفاف، والنخيل، ماء دجلة اهتزت أمواجه احتضاناً لرقصة الأرواح الطاهرة. وبدا أصغر الأشياء رائقاً كما قلب نبي “.ص134.

إن حضارة الكلمة ترتكز على الاعتبارات القابعة في مسافات التعتيم والتهميش (المرأة/دجلة)،حيث تقاوم السلطة المرجعية(الذكورة/الجفاف) من أجل القبوع في ذاكرة المكان، لذلك حتى في حالات الغياب/الموت تنبعث من جديد وفي شكلها المتعالي من أجل منح إنبات جديد/الطفل ومثول لا نهائي/السنابل يقاوم العدم ويشيد الوطن/النص . تقول ريحانة: “سيسير الوطن باتجاه صوت الشرف، لقد بشرت السماء بالمعجزة، وسينهض العراق من نومه الطويل.

سبايكر وشبابها سيلفظون الكلمة المفقودة، التي لن تجعل العيون بعد الآن أسيرة الدموع”.ص 136.

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *