الجمعة 29 مارس, 2024

العلم يؤنسن الكون

العلم يؤنسن الكون ويعتبره حيا ًوعاقلا وموسيقارا!

د. حسن عجمي

3ajami-1يبدو أنَّ النموذج العلمي الأساسي يصف الكون على أنه إنسان. بذلك العلم أنسنة الكون فيؤنسن بدوره الإنسان أيضاً.من منطلق أنسنة العالَم يصبح الكون حيا ً وعاقلا وموسيقاراً.

بعض النماذج العلمية المعاصرة تصوّر الكون على أنه حي وعاقل فيولد وينمو ويُنتِج المعلومات ويتبادلها. لكن هذه صفات الإنسان. من هنا، هذه النماذج العلمية تؤنسن الكون لكونها تصوّره على أنه إنسان. هكذا العلم أنسنة الكون. في هذه العلوم، يولد العالَم من الانفجار العظيم فيتمدد وينمو. وبما أنَّ صفات الولادة والنمو صفات إنسانية، إذن هذه العلوم تؤنسن الكون. يدفع الفيزيائي لي سمولن هذا النموذج المعرفي إلى نتائجه القصوى فيصر على أنَّ الانتقاء الطبيعي حاكم عالَم الأحياء يحكم أيضاً الوجود وتشكّل الكون الذي نحيا فيه والأكوان الممكنة المتحققة في الواقع. يقول سمولن إنَّ الأكوان الممكنة تولد في الثقوب السوداء وبذلك الانتقاء الطبيعي يختار الأكوان التي تملك ثقوباً سوداء أكثر فتوجد تلك الأكوان دون غيرها. ولذا اختار الانتقاء الطبيعي وجود عالَمنا بالذات لكونه يمتلك ثقوباً سوداء كثيرة ما يجعله قادرا ً على إنجاب أكوان جديدة وعديدة من جراء تعدد ثقوبه السوداء.

يضيف سمولن قائلاً إنَّ الأكوان الأبناء ترث صفات الأكوان الآباء والأمهات. ولذلك يتصف الوجود وأكوانه بالصفات الأساسية للكائن الحي كصفات الولادة والوراثة وتعرضه للانتقاء الطبيعي.

نموذج علمي آخر

أما بالنسبة إلى نموذج علمي آخر فالكون معلومات وإنتاجها وتبادلها. يقدِّم الفيزيائي بول ديفيز هذه النظرية العلمية فيصف العالَم على أنه يتكوّن من معلومات فأحداث العالَم وحقائقه ليست سوى معلومات. أما العلاقات بين الظواهر الطبيعية كالعلاقات السببية فليست سوى عمليات تبادل للمعلومات. لكن امتلاك المعلومات وانتاجها وتبادلها صفات الكائن العاقل كالإنسان. من هنا، يصوّر هذا النموذج العلمي الكون على أنه إنسان عاقل ما يدعم صدق فرضية أنَّ العلم يؤنسن الظواهر الطبيعية. كل هذا يشير إلى أنَّ العلم أنسنة الكون. فالعالَم حي وعاقل ويُنجِب الأكوان الأبناء وبذلك لا يختلف عن الإنسان.

بالإضافة إلى ذلك، العلم يصف الكون على أنه ديمقراطي. مثل ذلك النموذج العلمي الذي يقدِّمه الفيزيائي غوث. يؤكد غوث على أنَّ الكون ينشأ من العدم. فالعدم يتكوّن من طاقات متعارضة ما يؤدي إلى اختزالها فيتشكّل العدم. لكن من الممكن أن لا يحدث اختزال طاقة معينة في العدم من جراء التقلبات الكمية التي تصيب العدم كما تقول نظرية ميكانيكا الكم. وبذلك تتحرر تلك الطاقة فيولد الكون من نقطة معينة من العدم. وبما أنَّ العدم يتشكّل من نقاط عديدة إن لم تكن لا متناهية في العدد، إذن من المحتمل نشوء أكوان ممكنة عديدة ومتنوّعة من نقاط العدم المختلفة. هكذا يستنتج الفيزيائي غوث أنه على الأرجح توجد الأكوان الممكنة المختلفة في حقائقها وقوانينها الطبيعية.

سمفونية موسيقية

هذا يرينا أنَّ الوجود ديمقراطي لكونه يسمح بوجود كل الأكوان الممكنة المتنوّعة فيُعاملها بمساواة، فلا يفضّل وجود عالَم معين على عالَم ممكن آخر، تماما ً كما لا تفضّل الديمقراطية سلوكيات ومعتقدات معينة على أخرى فتضمن الحرية للجميع. لكن أن يكون هذا الكائن أو ذاك ديمقراطيا ً هي صفة إنسانية. لذلك هذا النموذج العلمي الذي يصر على وجود أكوان ممكنة متحققة بالفعل يصف الكون بصفة إنسانية ما يدل على أنَّ العلم عملية أنسنة الوجود والكون. وتتعدد الأمثلة الدالة على مقبولية هذه الفرضية منها نظرية الأوتار العلمية التي تصف الكون على أنه أوتار وأنغامها. وبذلك يغدو الكون سمفونية موسيقية. فالعالَم يتشكّل من أوتار وذبذباتها وتختلف مواد الكون وطاقاته باختلاف أنغام الأوتار الكونية. لكن إذا كان الكون أوتارا ً وأنغامها، إذن الكون يُنتِج الموسيقى وبذلك هو موسيقار كالإنسان. هذا مثل آخر على أنَّ العلم أنسنة الكون والظواهر الطبيعية علما ً بأنَّ العلم يصوّر أيضا ً الكون على أنه إنسان عازف.

نظريتا أينشتاين ونيوتن

كما أنَّ العلم أنسنة الكون، العلم أيضا ً أنسنة الإنسان. فالعلم يحرر الإنسان من خلال تقديم معارف صادقة فيؤنسن بذلك الإنسان. والعلم عملية تصحيح مستمرة وعملية بحث دائمة، حيث تستبدَل النظريات العلمية بنظريات أخرى عبر التاريخ. مثل ذلك استبدال نظرية النسبية لأينشتاين بنظرية نيوتن العلمية. فبينما الزمن مطلق وغير نسبي في نموذج نيوتن العلمي أمسى الزمن نسبيا ً ويختلف باختلاف السرعة في نظرية أينشتاين. وبذلك انتقل العلماء من الاعتقاد بلا نسبية الزمن إلى الاعتقاد بنسبيته حين تم استبدال نموذج أينشتاين بنموذج نيوتن العلمي.

هكذا النظريات العلمية تتصارع وتستبدَل بشكل مستمر فينتقل العلماء من قبول نظرية علمية معينة إلى قبول نظرية علمية أخرى فيتطور العلم وتتطور المعارف ما يتضمن أنَّ العلم عملية تصحيح وبحث لا تنتهي ولا تتوقف ما يضمن بدوره استمرارية البحث العلمي وتطويره. والأمثلة عديدة على ذلك منها استبدال الكثير من العلماء نظرية ميكانيكا الكم بنظرية أينشتاين. فالعديد من العلماء اليوم يعتمدون على نموذج ميكانيكا الكم العلمي ويدرسون الكون على ضوئه بدلا ً من الاعتماد على نموذج أينشتاين العلمي. بالنسبة إلى ميكانيكا الكم، القوانين الطبيعية احتمالية وليست حتمية بينما من منظور نظرية النسبية لأينشتاين القوانين العلمية حتمية على نقيض من نظرية ميكانيكا الكم. كل هذا يرينا أنَّ العلم عملية استبدال مستمرة لنظريات علمية بنظريات علمية أخرى على ضوء اختبار الواقع واكتشاف حقائق وظواهر طبيعية جديدة تدعم مصداقية بعض النظريات الجديدة وتنفي مصداقية بعض النظريات الأخرى.

تصحيح مستمر

لكن حقيقة أنَّ العلم تصحيح مستمر وبحث دائم تبرهن على أنَّ العلم هو أنسنة الإنسان. فبما أنَّ العلم عملية تصحيح مستمرة بحيث تستبدل نظرياته الجديدة بنظرياته القديمة، إذن لا يقينيات في العلم بل العلوم تقدّم ما هو ممكن أو ما هو محتمل أن يكون صادقا ً ولذا يتصف العلم بتغيير معتقداته ونظرياته. أما اليقينيات فهي التي لا تقبل الشك والمراجعة والاستبدال على نقيض من العلم القابل للمراجعة والنقد واستبدال فرضياته ومبادئه. وبما أنَّ العلم لا يحتوي على يقينيات بل هو نقيضها، إذن حين نقبل العلم والتفكير العلمي تتحوّل معتقداتنا إلى لا يقينيات ما يجعلنا لا نتعصب لها وما يحتّم بدوره قبولنا للآخر وإن اختلف عنا في معتقداته وثقافته. هكذا العلم يقضي على التعصب ويؤدي إلى قبول الآخرين. وأنسنة الإنسان تكمن في التحرر من التعصب واعتماد قبول الآخر المختلف.

من هنا، العلم أنسنة الإنسان. فلا إنسان بلا علم تماما ً كما لا علم بلا إنسان. وأنسنة الإنسان هي إنتاج إنسانية الإنسان وتحقيقها في الواقع المعاش. وجوهر إنسانية الإنسان يكمن في قبول الآخر ومعاملته على أنه إنسان مالك للحقوق الإنسانية كحق كل فرد في أن يكون حرا ً وأن يُعامَل بمساواة مع الآخرين. لكن العلم أنسنة الإنسان فعملية تحقيق إنسانيته. وإنسانية الإنسان كامنة في الحقوق. بذلك العلم أساس نشوء الحقوق الإنسانية واحترامها.

كل هذا يدل على العلاقة الضرورية بين العلوم من جهة والقضاء على التعصب بكافة أشكاله وقبول الآخر وتحقيق الحقوق الإنسانية من جهة أخرى. ولذلك نجد أنَّ الشعوب المتطورة في العلوم متطورة أيضا ً في إنسانيتها بينما الشعوب التي لا تشارك في صياغة العلوم فمتخلفة في إنسانيتها وتعاني من الصراعات والحروب. فالخطوة الأولى نحو تحقيق السلام كامنة في قبول العلم والمشاركة في إنتاجه لأنَّ العلم كنقيض لليقينيات هو الوحيد القادر على تحريرنا من التعصب فتحريرنا من حروبنا وصراعاتنا. إنسان بلا علوم شبه إنسان. الإنسانية هي أن تؤنسن الآخر فتتأنسن الأنا. لذا العلم كأنسنة للكون هو أنسنة للإنسان أيضا ً. حين يصبح الكون إنسانا ً يتمكن الإنسان من اكتساب إنسانيته لكون الإنسانية علاقة تبادلية تعتمد على معاملة الآخر والنظر إليه على أنه إنسان. وأنسنة الكون والإنسان عملية لا تنتهي. لذا لا ينتهي الإنسان ولا ينتهي الكون.

جريدة الأنوار : 1/2/2018

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *