الخميس 25 أبريل, 2024

سرّ الألوان في الدَّحنون/ شقائق الحريّة

سرّ الألوان في الدَّحنون

شقائق الحريّة

د. علي حجازي

 

تنفّست البلدةُ قليلاً، غمرتها فرحةٌ منقوصةٌ، غصّات في الحلق والعين والقلب. فبعدما انزاحت عن صدرها تلك الغدّة السرطانيّة شرّعت أحضانها للريح، والحبّ والحرية التي تفتقدها القرى الحبيبة المطلّة بشوق على وادي السلوقي – والحجير، من جهة الشرق ، والتي لا تزال تكافح لاستكمال استئصال هذه الغدّة السامّة .

البيوت الحاملة بصمات القذائف والبارود لا تزال واقفةّ، سرعان ما تطرد عن وجوهها وجسومها والأقدام تلك الآثار الهمجيّة التي وسمها وحش بصورة كيان.

تلك الليلة لم ينم أطفالي وزوجي، فالخبر المفرح روّى عطش نفوسهم إلى بيت يسكنونه بسلام. غداً، نزور الأرض التي سنعمرها، نبني فيها بيتاً جديداً.

تنهّدات أمّي وأبي، مصدرها خوفهما علينا وعلى البيت الذي أبصرا خريطته بحوزتنا، من مصير مجهول ، غير أنّ تلك المخاوف لم تلقَ صدىً في نفسي ونفوس أفراد أسرتي.

كانت عيوننا، تلك الليلة ، مشرقةً بحبّات دموع فرح مشتهى بعد حزن أقام طويلاً ولا يزال.

سبقنا الشمس إلى “النقيرة” الأرض التي استقبلتنا، بترابها البنّي الغامق، وحجارتها الصخريّة ، والتي منحتها هذا الاسم: “رجمة النقيرة” والرجمة تعني مساحة تحتضن حجارتها وحجارة الأرض المحيطة بها، بعد نقبها. أغمضت عيني ورحت أستعيد كلام أخي: أعانك الله على جرف هذه الرجمة الكبيرة.

توزّعنا فريقين، زوجي مع فاتن ورلى يجمعن “الحميضة” ذات الأجراس الصفراء الجميلة شميلات صغيرة، في حين أسرع فراس وعبد الله يقطفان الدحنون.

دنوت منهما أكثر، من فرحهما وهما يتأمَّلان هذه الأزاهير التي كانت تتمايل بفعل نسائم الربيع، بدت تلك اللحظة، وهي تحرّك رؤوسها وأغصانها مثل إنسان مغروس في أرض تتعرَّض للأذى على الدوام، قلْ، إشارتها هذه رسالة ذات دلالة خطيرة : ” أن كونوا على حذر دائم وأنتم تجاورون هذه الذئاب الشاردة” .

هذه الشارات المهمّة ذات الدلالة الكبيرة لم يستطع فراس وعبد الله التقاطها ، وهما يقطفان الزهيرات ، ويضفّرانها شميلات بحسب اللون، الأحمر، والأزرق، والأبيض والبنفسجي والأصفر… عندها انتابني شعور غريب، فرح يمازجه حزن مقيم منذ أقامت هذه القطعان المفترسة كيانها على حساب أصحاب الأرض الأصلييّن في فلسطين، وعلى مسافة قليلة من هذا التراب الذي لا يزال مصرّاً على بعث رسائل الدحنون إنعاشاً لذاكرة جيل عاش هنا، مقاوماً المحاولات الحثيثة لاقتلاعه، وآخرها، كانت في تلك السنوات العجاف الثلاثة التي انتهت منذ سنتين ، أي في العام خمسة وثمانين، ولا يزال رابضاً على حبّات عقد القرى المقابلة.

همت من عينيّ دموع، انسابت على مهل ، وشرعت ترسم خريطة تلك الأيّام بحلوها ومرارتها.

فجأةً، قطع فراس عليّ حبل استعادتي مشاهد الصراع الدامي الذي حقّقنا فيه انتصاراً على هذه الذئاب، باذلين في سبيله الغالي والنفيس من خسارات في الأرواح، وفي البيوت والشجرات، وفي الزرع والضّرع، فأسرع إليّ يحمل شميلة زهر متعدّدة الألوان، ولمّا أبصر ما يعلو صفحة وجهي من تغضّن، تراجع عن سؤال أبصرته مرتسماً على محيّاه. فقال:

– أبي، ما بك؟ أحزين أنت ونحن ننعم بسعادة كبيرة؟

حدّقت إلى تلك الزهرات الجميلة التي جمعها الآن مع شقيقه، بفرح وقلت:

– أسبق أنْ حدّثتكم عن سرّ الألوان في الدحنون؟

– أبي، نحن نسمّيه “شقائق النعمان”، أليس هذا هو اسمه الحقيقي؟

– الكلّ يعرفه بشقائق النعمان، غير أنّ بصماتِ دمائنا ودماءِ أجدادنا هي التي خزّنت وجع الدحنون وأسراره. النعمان بن المنذر أعجب بألوانه من دون أن يكشف لنا سرّ لونٍ من ألوانه، فشتّان بين معجب بزهيرات جميلة وبين من منحها تلك الألوان.

– أللألوان أسرار يا أبي؟

– أجل يا حبيبي، سأبدأ فكّ شيفرات الأبيض والأحمر والأزرق والأسود والبنفسجي …

جلست على حجر، وأسرع الباقون يلتفّون حولي، ورغبتهم في معرفة الأسرار باديةٌ على وجوههم.

فرَّست في وجوههم، في حدقات عيونهم المتألّقة شوقاً ترسمه دموع شفّافة.

عندما أبصرت خريطة الدمع المتشكِّل لوحةً قلت:

– ذات صباح شبيه بهذا الصباح الربيعيّ الأخّاذ، رافقت أبي إلى جلّ القطن الواقع هنالك، في المنطقة الشرقيّة من بلدتنا. كانت الشمس تقارب الظهر، يومها لم أكن أحمل ساعة، كنّا نتعرف الظهر من الأذان الذي يرفعه الحاج علي حسين من على مئذنة الجامع، جامع بلدتنا الوحيد قرب الساحة، والذي تظلّله توتة كبيرة مشهورة بتوتة الجامع. قلْ، هي تحتضن أجسامنا الصغيرة، تحنو علينا، وعلى ألعابنا البريئة في فيئها، بل كنّا نقيس المسافة التي تقطعها الشمس بالقامات ، فنقول: هي على ارتفاع قامةٍ او قامتين وهكذا…

لمّا وصلنا إلى الحقل، أسرعتُ أجمع الدحنون شميلةً كما تفعلان الآن، وأخواتي مع أمّي رحن يجمعن الحميضة ذات الأجراس الصفراء.

عندما أبصر أبي شميلة الزهر في يدي، شرع يحدّق إلى اليها تارةً، وإليّ أخرى بنظرات تشي بحزنٍ عميق. وسرعان ما تغضّن وجهه. دنوت منه ، لمست يده ،، محاولاً اكتشاف مصدر انزعاجه، فلم أنجح، لأنّه تلفّع بصمت ثقيل. فسألته :

– أبي، هل أصابك مكروه؟

– هاه، لا، لا يا حبيبي.

– ولمَ أراك حزيناً الآن؟

– هذا الدحنون يثير مواجعي.

– ما دخل الزهيرات الجميلة بما تقول؟

– أنت تعيدني إلى استعادة ذلك المشهد الذي وقفتُ فيه أحملُ الدحنونَ إلى أبي، رحمه الله، فأصابه ما أصابني الآن، حيث تنهّد وشرع بعدها يتلو علينا ما يعرفه قال:

“الدحنون، يا ولدي، كما ترى، ألوانه متعدّدة، منه الأحمر الزاهي، فالقاني المشرب بالسواد، ومنه الأزرق الفاتح، فالأزرق الغامق، فالأسود والبنفسجي والأبيض. وأزيدك أنّ السواد حاضر في الألوان جميعها. سأبدأ بالأبيض:

هذا البياض يعكس طيبة قلوب أهلنا وتسامحهم، حتى مع جنود الاحتلال وعملائه الذين يقعون في الأسر ، فيلقون معاملةً إنسانيّة راقية، على عكس تعاملهم معنا، ومع أبنائنا وبناتنا الأسرى في المعتقلات التي يتذوقون فيها التعذيب ألواناً وأشكالاً ، وتحدوني الآن رغبة في رواية تفاصيل حكايات الألوان ،فالنساء اللواتي يغتال المحتلون أبناءهن، كنّ يرتدين السواد حداداً عليهم، ويأتزرن الأبيض الناصع فوقه علامة تحمل عدم مبالاتهن بما أصابهن من الحزن، وعدم اكتراثهن بما فعله هؤلاء القساة بفلذات أكبادهن. أجل، أنظر إلى شعيرات الدحنونة الصغيرة. قل إلى مجسَّاتها

– ما بها؟ قلت.

– هي مجسَّات ترقب الزمن، تعدّ أيامه، ساعاته وثوانيه، نهاراته ولياليه انتظاراً لانتصار العين على المخرز، لرحيل هؤلاء الغرباء عن هذا التراب، وهذي الأرض، لينضين البياض عن أبدانهن اللاتي أرهقتها الأحزان، وأضناها الانتظار المرّ شوقاً إلى الحرية المشتهاة التي قدمنا على مذبحها الشهداء والجرحى، الأسرى والمعتقلات، في سجون قريبة وبعيدة. هذا سرّ البياض يا ولدي.

قبل أن تسأل، سأشرح ما يعنيه الأزرقان اللذان يُؤرّخان ألوان تلك الجلود البشرية التي تلقّت لسعات السياط ألواناً في السجون والمعتقلات، في سفر برلك وحروب الأتراك العبثية، وسجون الفرنسيين والصهاينة وسجون سلطتنا كذلك.

– كأنّك تتحدّث عن السجون والمعتقلات التي أقامها الإسرائيليون في أرضنا: أنصار والريجي في النبطية، والخيام وغيرها ، وعتليت في فلسطين…

أسرعت إلى جبين فراس وزرعت فيه قبلة وتابعت:

– أخبركما أنّ سلطتنا شرَّعت أبواب سجونها لنا بعد انتفاضة الثمانية وخمسين، وبعد احتضاننا الأخوة الفلسطينيين المشرَّدين من ديارهم المحتلَّة.

– أجل ، إنّ جلود المعذّبين احتفظت بالأزرقين الفاتح والغامق، وخزّنتهما في ذاكرة الأجيال المتوعدة بالثأر حتى تحرير آخر شبر من ترابنا الغالي.

الأزرق الفاتح سرعان ما يتحوّل إلى الغامق خطوطاً يسهل معها، عدّ الجلدات التي تَحمَّل قساوتها المعتقلون، وكأنها عدّادات تحصي الضربات: عشرون، خمسون، مئة جلدة وأكثر. ومع ازدياد الضربات تمتقع ألوان الجلود بالأزرق الغامق الممزوج بالأحمر القاني، فالأسود الفاحم.

قال أبي ذلك، وأسرع يفتح دحنونة زرقاء قاتمة. تملّاها جيّداً وقال:

– أنظر يا حبيبي، انظروا كلّكم، فالوجع وجع جماعي، علينا أن نخزّنه كما يخزن هذا الدحنون لون الدماء الحمراء القانية التي تشكّل خطين موازيين يلتحمان بالخط الأساس الذي رسمه السوط، بجانبهما خطان أسودان. فعينك، ساعتئذ تتعرَّف قوسَ قزحٍ ألوانه من نوع آخر بِتّم تعرفونه، وهذا الأزرق القاتم يظهر بوضوح على العيون المكتسية لون الدّم، وعلى صفحات وجوه المعذّبين، خدودهم وأنوفهم ، ويمتدُّ إلى الرقبة والصدر نزولاً، لا يستثني منطقة، محرّمة كانت أم غير محرّمة.

إذاً، الأزرق يلاصق الخطين الآخرين، الأحمر والأسود. فالأحمر دلالته واضحة، فهي تشير إلى الدم المراق حديثاً، بلون الأحمر الفاتح، يعقبه الدم القاني الملتحم بالتراب، بلون الأحمر الغامق.

– أبي ، تعلّمنا أن اللون البنفسجي ناتج عن مزج اللونين الأحمر مع الأزرق ، أنت الآن تحلّل لنا سبب وجود اللون البنفسجي الذي ترسمه ضربات السياط على الوجوه والأبدان (قالت رلى)

– أحسنت يا حبيبتي ، لعلّ اكتشاف اللون البنفسجي متأتٍ من مراقبة آثار التعذيب على وجوه المعذّبين وأبدانهم

أما السّواد ، فحكاياته مشفّة في الحزن والوجع. لأنّه يخطّ على رؤوس النساء، وجوههنّ وأجسامهنّ علامات القهر المتأتّية من أولئك الجنود الذين يحاصرون القرى بقصد سركلة الرجال الكبار والشبان، وسوقهم في “سفر برلك”، وقبل أن تسألني عن معنى هذه الكلمات أقول لك -والكلام لأبي -الضابط اسماعيل الترك، كان يسعى إلى اعتقال هؤلاء وسوقهم إلى حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ولا ينجو منها ومن ويلاتها سوى طويل العمر. فعندما يعتقل الجنود الشبان والرجال، تأتزر النساء أثواب الحداد، ويطلين وجوه الجدران، جدران البيوت والساحات بالسواد. ويبقى شيء واحد أريدكم أن تعرفوه، أنّنا كنّا نغلي زهيرات الدحنون ، ونصنع منها حبراً مختلف الألوان نؤرِّخ به معاناتنا التي لا تنتهي على هذي الأرض المنذورة للجهاد.

-أبي، لم تحدّثنا عن اللون الأصفر(قالت فاتن)

رنوت إلى شميلة الأزاهير الصفر التي تحملها وقلت:

الأصفر يرمز إلى الشوق والحنين .

-الشوق لمن؟( قالت زوجي)

– هذا اللون يرفعه السجناء شوقاً إلى الأحبّة والحريّة والخلاص ، كما يلوّح به الأهل شوقاً إلى أبنائهم وبناتهم المعتقلين ، من هنا ، اتّخذنا هذا اللون شعاراً وطنيّاً رامزاً إلى القلوب الخافقة حنيناً ، الراغبة في تحرير المعتقلين والمعتقلات في السجون

هنا، قطعت زوجي الحديث عليّ قائلةً:

– الآن، كما ترى، نحن أسرعنا إلى “النقيرة” لمعاينة المكان الذي سنبني فيه بيتاً، بعد اندحار العدو عنها، وعن أرضنا الواقعة غرب السلوقي ،بعدما قدّمنا أغلى ما عندنا من أرواح ودماء وممتلكات، ألا يحقّ لنا أن نفرح بمنظر هذا الدحنون؟ ألا يحقّ لنا أن نطرد الحزن عن صفحات وجوهنا عند إبصاره ، لأنّه أضحى مذكّراً إيّانا بالمآسي التي تحمّلناها كابراً عن كابر؟ دعه يكن بشارةً جديدةً تفتح على حياة جديدة مليئة بالسعادة والفرح.

– نعم، يا عزيزتي، ستكتمل فرحتنا عند زيارتنا قرانا وبلداتنا الحبيبة الواقعة شرق السلوقي والحجير، غداً، سيكون للدحنون الحنون لون الفرح الزَّاهي الواعد بدحر أي ذئب غادر مهما علا شأنه، وتعاظمت قوته في هذا العالم. – عندي سؤال يا أبي ، (قال عبدالله )

– – تفضّل يا حبيبي

– ألا ينبت هذا الدحنون في أرض غير أرضنا ؟

– جميل سؤالك يا حبيبي ، هذا الدحنون الذي أسمّبه الآن شقائق الحريّة ينبت في الأرض كلّها، ليكون علامة تؤرخ أطماع المعتدين، وتسجّل معاناة الشعوب المظلومة التي كافحت ، ولا تزال تناضل في سبيل انتزاع حريّتها. كان الدحنون كذلك، وسيبقى يقدّم ألوانه هذه إلى أن يعمّ العدل والسلام هذا العالم الذي تسيطر عليه الأطماع والشهوات.

د. علي حجازي

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *