الجمعة 29 مارس, 2024

انفِـصـام

انفِـصـام

بقلم : محمد الجلواح

jolwah

** يقول الشاعر الفارس عنترة بن شداد :

لو كان قلبي معي ما اخترت غيركم

ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا

لكنه راغب فيمن يعذبه ..

فليس يقبل لا لوما ، ولا عذلا

ـ ينبثق عدد من الأسئلة والإستفهامات من القراءة الأولية للصورة الخارجية للبيتين السالفين في محاولة لوضع جوهما في إطار المفهوم العام بأبسط وأظهر صورة .. بهدف مقاربة أوليه لمقصود الشاعر .. منها :

– كيف يكون قلبه بعيداً عنه هو ؟ ، وكيف يختار قبله مالا يريده هو ؟

– كيف يحب أناساً خارج قلبه ؟ ، كيف يبقى راضياً ، وراغباً فيمن يعذبه (وربما قد نجد الإجابة على هذا التساؤل الأخير ) ؟ .

– هل بالإمكان القول أن عنترة لم يكن حبه صادقاً في الحالتين ( حالة حب القلب الذي ليس معه ) وحالة حبه هو ..

– هل جاء هذان البيتان نتيجة ظروف معينه ، أو مجاملة لموقف ، أو لشخص معين ..؟

– حقيقة ربما لا أعرف كيف يكون كل ذلك مع الاقتراب الشديد للبيتين .

– الذي نعرفه أن الإنسان كتلة واحدة لا تتجزأ من كل شيء إلا أن يكون ذا شخصية مزدوجة .. أو أنه يعيش انفصاماً أو كما نقول في الأمثال الشعبية (أبو وجهين) !.

– ومن جانب آخر نعرف أن الإنسان قد يعيش مشاعر حب ( من طرف واحد ) كما نقول هذه الأيام .. ولكن هذا الحب هو لشخص واحد .. إلاّ في حالة أخرى أيضاً أن تكون مشاعره غير حقيقية أو صادقة ، أو مضطربة حين يجد نفسه يهوى أكثر من امرأة ، وهنا : يكون الوضوح والصدق والحزم والتوحد مطلوب للإنسان في هذا الأمر ( فالمسألة ليست لعبه .. ) .. ويحضرني هنا وأنا أتذكر (الحب من طرف واحد ) قول الشاعر / الأعشى قيس بن ميمون في معلقته .. حيث يقول :

عُلَّقتُها .. عَرَضاً ،وعُلّقت رجلاً

غيري وعُلّق أخرى غيرها الرجل

– هنا .. ندرك أن كل أطراف البيتين السابقين يعيشون قصة حب (من طرف واحد ) ، وهذا أمر ، مفهوم ، وسائد ، وقائم (وإن كان مؤلماً) ، ولكن أن يكون الحال كحال عنترة الذي ورد في جبين هذه السطور .. فهو هذا مورد التساؤل ..

– وقد يماثل هذين البيتين .. في تراثنا الشعري .. العديد من المواقف والصور، والمشاهد …

************

– آه .. لقد تذكرت شيئاً .. هنا .. يمكن للرجل أن يحب امرأتين ( زوجتين ) في آن .. ولكن الأمر هنا .. ليس غريباً .. لأنهما تحته وحليلتيه .. ولا يوجد ما يدعو ( للعذاب ) .. لكن أن يهوى شيئاً ، وشيء آخر من ( جسده ) أو ( مشاعره ) يهوى شيئاً آخر فهذا لم أراه سوى لدى عنترة .. الذي يقول :

ولقد ذكرتكِ والرماح نواهل

مني ، وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المبتسم

– هنا لا نزال في الانفصام ، ولكن الانفصام هنا انفصام في الموقف أو انفصام موقف .. لا انفصام شخصية ، فالتقاطع بين الحب ، والحرب – كما في البيتين – ولدى الشاعر لم يتم بل يبرز في أجلى وأقرب صورة ..

– حالة عجيبة للغاية تدعو للدهشة والجنون كيف يعيش هذا التلبّس المذهل من الحب في سنام اصطكاك الأسنّة وحشرجات الصدور وتوخي الموت لحظة لحظة .. ثم ألم يجد ( حلماً ) .. آخر لتقبيل ( ثغرها المبتسم ) غير لمعان السيوف ؟

– أي ألم يجد ظروفاً أخرى خارج الحرب .. لممارسة هذا ( الحلم ) ؟ .

ـ العثور على الإجابة المفترضة ..

ـ فجأة ة ودون مقدمات بينما كنا نثير موضوع البيتين اللذين وردا في جبين المقال : ( لو كان قلبي معي .. ) ، ضمن أحاديثنا العامة ونحن في الحافلة التي كانت تـنقلنا بين أحياء ومضايف أهل الضيافة والكرم في منطقة حائل أثناء حضورنا (ملتقى حاتم الطائي ) الذي نظمه نادي حائل الأدبي في شهر جمادى الأولى 1433 هـ ، أبريل 2012 م ، وأن هناك ثم انفصام وغموض وتساؤلات وتناقض وووو في البيتين المذكورين ، كما ذكر في السطور السابقة ..

أقول : بينما كنا في ذلك إذ تفتقت لدي فكرة دلتني على مفتاح التفسير للحالة ـ على ما يبدو لي ، أو هكذا أزعم ـ وهي :

أن عنترة كان يقصد أنه حتى لو كان قلبه معه الآن ، وتحت تصرفه ، لم يكن ليختار غير أحبته الذين هم لديهم الآن قلبه و هم الآسرين له ، والذين لن يرض عنهم بدلا ، لكن قلبه مرهون ( بإرادته هو ) مع هؤلاء الأحبة أنفسهم ، والذين كان سيختارهم .. هم ، لو لم يحبهم ، وهؤلاء الأحبة هم الماضون الآن في تعذيبه ، وتعذيب قلبه .

أي أن أحبابه : هم .. هم .. ، لم يتغيروا في الحالتين ، وقد جاء البيتان لتأكيد ذلك ، ومعناهما بحسب الصورة الظاهرة هكذا :

ـ حتى لو كان قلبي حرا ، ـ وهو الذي مرهون عندكم أنتم بإرادتي ـ .. عندي الآن ، أو أنكم تعيدونه إلي .. لم أكن لأختار سواكم أنتم ، لكنه في وقته الراهن .. هو عندكم ، و أنا راض بتعذيبكم قلبي ، وتعذيبكم إياي ..

هكذا بدا التفسير مقنعا لي ، ولبعض الأخوة الذين كانوا معي ، و كأنني بذلك قد أنهيت إشكالية الأسئلة .

ومع ذلك فلا أزعم ـ بالطبع ـ أن هذا هو التفسير النهائي والقاطع لمعنى البيتين وأبعادهما ، بل هي مجرد محاولة قابلة للصواب ، والخطأ .. والله أعلم ..

منقول عن صفحة الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *