الجمعة 29 مارس, 2024

الشقشقةُ

الشقشقةُ

الشيخ فضل مخدّر

4 نوفمبر، 2016

fadel

قالوا في المعاجم للشقشقة معانٍ شتى أهمها: هدرة الجمل ، والطير إذا صوَّتَ، والشقشقةُ شيءٌ كالرئةِ يخرج من فم الجمل إذا هاج أو غضب، ويُقال للفصيح:”هدرتْ شِقشِقَتُهُ، ويُطلق على فصيح القوم “شِقشقَةٌ” ووصف بها الضوء الأول للفجر: بفتح الشين.

كل ذلك من المعاني، أو أكثر من ذلك يمكن أن يكون سبباً أو أسباباً لـ “شقشقة قلم” أو قل: لشِقشقةِ قلمي في لقاءٍ أو مناسبةٍ أو حادثةٍ تطرأ…

قال لي بعض الأصدقاء: إن في عنوانك تقليداً يبعده عن الحداثة، وعبّر آخر: إنّ الإختيار جريء، وقال آخرون: إن العنوان موفّق أو هو استخدام الماضي للحاضر كـ “موضة العصر الحالي”، ولكن حقيقة الأمر والواقع المؤثر في الإختيار كان أبعد من إرادةٍ وتصميمٍ يبنى على قواعد العنوان والمُعَنوَن وما يتبع من قديم ومستحدث، فللمرء تأملات قد تفوق أو تتجاوز الحدّ المرسوم للخيار والمقصد، وواحدة من ذلك تلك الحادثة التي رسمت لعنوان الكتاب حداً لا أحسبه يخالف أو يختلف عن تقليدٍ أو حداثة وإن تنازعته الأقاويل، بل للأمر في زاوية من المفهوم بساطته… حيث وقفت على نافذتي الصباحية أتأمل لأبعد ما يمكن أن يصل إليه بصري على مسطح اخضرار الربيع من مرجٍ وشجر، تُعاتب فيه المُقل الغمام الآفل لعودةٍ ترتجى وانقشاعٍ يؤمل، كما الحائر بين تدثر الشمس واستواء قرصها… يرغب استضاءة الربى ويتأفّف لظى الوهج ولا يدرك الحاجة إلى كليهما، يأنس الظلَّ حتى يستحيل إلى دجىً تقفل معه الدنيا حتى على مدارك الحَدْسِ دونك الحواس، وفي لحظة تكون بعض شمعةٍ خلّفها الأبعدون ذات معنىً لا يجاري في فهم النور وهمسة ضوء.

على غير عادتي، ولقربٍ ناهز الأقرب من أذني ينفرُ طائرٌ من فوق تلك النافذة المشرَّعة على اطلالتي عند اللحظة التي دوّت فيها بندقية حاقدة على الطيور، سواء الآيبة أم المهاجرة، وقد أصدر ذلك الطير صوتاً ظل يئن في قرار صدغيَ ليعبِّر عن خوف العصفور الذي اقتحم أسرار البرهة من خوفي، وما كان سوى أن لجأت في دهشةٍ من أمري إلى خاطرةٍ تنازعتها أقطاب نافذتي الأربعة: لعل العصافير لا تخاف… فلم صوَّتَ؟؟.. هل للطيور غضب يمكن أن يجوز صغر أرياشها ويسعى مولولاً على زمن استكان وما نهض؟ أم أن القضية قضية ألمٍ لا يسكن؟..

سافر ظني لاهثاً حول حكاية حدثتني بها والدتي عن جملٍ كان لجدي… أقفلت النافذة وقطعتُ المسافة بيننا خطوةً لأستذكر منها الخبر…

… :كان جدُّك جمّالاً من أصائل الجمّالين، أرسلَ خالك لبعض أحماله في بريّةِ الضيعة… أناخ خالك الجملَ فلم يجبه لمرات ومرات… أخذ يضربه وما أجاب، فتىً في الرابعة عشرة لا يحسن معاملة الجمال فزاده ضرباً… آلمه… أبرحه…هاج الجمل وما أدرك الفتى حدود غضبه، وما أحسَّ سوى أن رأسه قبضة بين أسنان الجمل، يلوح بجسمه كالخرقةِ، ويلقيه مضرّجاً… ولولا أن رآه راعٍ سارع إلى تهدئة الجمل لكان قضى منه ما تبقى فيه من رمق… حمله الراعي وأخذ برسن الجمل حتّى أدرك جدَّك بباب الدار أناخه وأعطاه الولدَ وهو يكاد يلفظ روحه… والتمَّ الناس وتهيّأوا للمدينة علَّ الله يلطف بمن يعالجه… ولكنْ لحظة انطلاقتهم… التفت جدُّك إلى جمله النّائخ بباب الدار التفاتة عاتبٍ امتلأ قلبه مما حصل… صفعه صفعةً سُمع صوتها عند مصطبة الساحة ونهره: … أهكذا… أهكذا تحفظ الأمانة..؟

غادروا جميعاً، وبقي الجمل باركاً بباب الدار، وجرت منه دمعةٌ كأنها اللهب يتدفق على خده… وأخذ يتلوّى… ويلوح برقبته طوال النهار، وما ألقى الليل عتمته ولم يعودوا بعد… حتى بدأ يضرب رأسه بجدار الدار… ومات الجمل… مات دون أن ندري… ندَمٌ هو أم غضب؟…

وما تأكّدتُ تلك الخاطرةَ حتى عزمت العزم،… لتكن حروفي لا تقل خوفاً أو غضباً عن هدرة عصفور أو هدرة جمل ولتخرج كما هي من روض الفصاحة ساعيةً إثر رغبة الأدب، وعلّها بقسميها “النص الأدبي” و”الأدب النقدي” تشقُّ في الدجى شمعةً وتطلق في المدى صوتاً… لعلها تكون “شِقشِقةُ قلم” ولا بد لها يوماً أنْ تستقرُّ…

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *